لا تني القيادة الروسية تقدّم يومياً وعلى أرفع مستوياتها، الحيثيّات الكافيات الدّالات على أنّها تأخذ جدّياً المخاطر التي تهدد حضورها في سوريا، وهو درّة التاج في نفوذها الخارجي، الذي مكّنها من لعب دور القوّة العظمى باقتدار، وجعلها تستحق السعي «الدولي» لكسب رضاها.
«جائزة» السيئ الذكر باراك أوباما الى الزعيم الروسي فلاديمير بوتين كانت سوريا! فيها انقلبت الأدوار والأوزان، واعتدل الميزان: في مقابل الأثمان الغالية التي دفعتها عبر العقوبات القارصة بسبب «إستعادة» القرم والتدخل «القومي» في أوكرانيا، أُعطيت موسكو من كيس سوريا والسوريين ما يكفي لتعويضها ويزيد، وعلى المستويات المعنوية والتعبوية والسياسية والإعلامية والاقتصادية، وصولاً الى تلك الخاصّة بالسلاح وأسواقه الثقيلة والحرزانة!
قبل دونالد ترامب بقليل، تحوّلت العاصمة الروسية الى مقصد حتمي لكل مهتم ومهموم بالنكبة السورية، بريء المقاصد وخبيثها على حدٍّ سواء.. وصار وزير الخارجية الأميركي جون كيري زائراً عادياً لها، وبمعدلات غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، وبأجندة توسّلية وإسترضائيّة لا تليق بأكبر دولة في التاريخ! وطُمِرَت إرتكابات كبيرة قام بها العسكر الروسي على حافة الأزمة الأوكرانية وفي مركزها كما في أجوائها، في مقابل إنعاش وتظهير وتنفيخ دوره المسلّح في «محاربة الإرهاب»!
.. وفي سوريا ذاتها، بدت روسيا صانعة المعجزات: ربطت علاقاتها بوشائج متينة مع إيران من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، وكلّ جهة من الجهتين تزايد على الأخرى في «متانة» الربط وشدّته!.. وفيها بدت كمْ هي «كبيرة» في مقابل ضمور أوروبا العتيقة! وكم هي حاجة جسرية للربط بين متنافرين! وكمْ هي جاهزة وحاضرة ناضرة لتعبئة أي فراغ ناتج عن انكفاء الشرطي الأميركي! ثم كمْ هي مؤهّلة في التصنيع العسكري لتلبية متطلبات سوق عطشى دائماً الى الأحدث والأقوى، خصوصاً أنّ سلاحها الجوّي والصاروخي امتُحن على الحامي وبأجساد وأعمار وعمران السوريين!
وقبل ترامب بقليل، كادت موسكو تُكمل الجنى، وتضع العالم أمام خيار القبول بالمعادلة التي تضعها هي في شأن النكبة السورية، أو الاستمرار في تلقّف تداعياتها السلبية، مثل النازحين واللاجئين، أو مثل الإرهاب الداشر في شوارع أبرز المدن الأوروبية تحديداً!
في هذه المرحلة، يشعر صاحب القرار الروسي بأنّ كل تلك العظَمة القائمة في ذاتها والواعدة بما هو أهم وأكبر، تكاد أن تنزوي مجدداً وتتواضع تحت وطأة مستجدات إدارة ترامب التي (للمفارقة) كانت واحدة من علامات «الاقتدار» الروسي بعد الكلام الكثير الذي سرى خلال فترة الانتخابات الرئاسية وبعدها (ولا يزال) عن «دور» موسكو في إنضاج هزيمة هيلاري كلينتون.
«حضر» الأميركيون في مطار الشعيرات، وغابوا عن موعد ثلاثي في جنيف! وجاء وزير خارجيتهم ريكس تيلرسون في زيارة الى موسكو ليبلغ قادتها أنّ «زمن عائلة الأسد انتهى» وأنّ دور الجسر الرابط بين متنافرين ومتصادمين وأعداء في سوريا سيتعرّض لاهتزازات خطيرة وجدّية! وغير ذلك الكثير من الذي يدل على بدء مرحلة جديدة، يسرح فيها المنطق خارج المصحّ، الذي حبسه فيه أوباما طويلاً!