قد يكون من أبرز ما أثارته الموجة الأولى من “مغامرة التسوية” لترشيح سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية انها شكلت استفتاء متقدماً لأرضية لبنانية مناهضة بقوة لاستعادة أنماط وتجارب أباحتها ظروف سابقة ثم ثبت الآن ان اتباعها لم يعد نزهة سهلة. ينطبق ذلك أولاً على الأفرقاء الدافعين للتسوية ولو انه لا يوفّر الأفرقاء الرافضين له. وإذا كانت ملامح التأزيم تثقل على ضفتي المشهد السياسي فإن التمعن في الحدة الهائلة التي تطبع جانباً من الانفعالات التعبيرية الشعبية الرافضة لهذه التسوية من شأنه أن يضع معادلة ارتكاب الأخطاء في مرمى الجميع.
لامس الزعيم الجنبلاطي بعض هذا العصب الشديد التوتّر بمقولته ان “البعض لا يتعلّم من التجارب” مقارنة بتجربة ريتشارد مورفي. ولكن تجربة 1988 لا تستوي وحدها هنا لأن هناك ما يوجب توسيع اطار “البعض” الذي يلمح الى الأفرقاء المسيحيين وحدهم ليطاول أيضاً الشركاء المؤيدين للتسوية. قد يصح إلى حد بعيد مقارنة رفض مسيحي لانتخاب سليمان فرنجية الحفيد بإسقاط انتخاب النائب السابق مخايل ضاهر، ولكن ما يصح أيضاً هو “إنزال” ترشيح فرنجية كما حصل يستعيد مع تجربة مورفي تجارب إنزال رؤساء ومرشحين خلال عصر الوصاية السورية ومن خلال ترشيح رمز لا تعوزه الصراحة المتناهية في إعلان كونه الحليف الأكثر التصاقاً برأس النظام السوري. بطبيعة الحال المسألة لا تتصل هنا بالمعطيات التي لا تزال شديدة الغموض وتثير كل هذا الاحتدام والانفعال والصخب لدى قواعد 14 آذار خصوصاً ما دام الرئيس سعد الحريري لم يفرج عن المكنونات التي دفعته نحو هذا الخيار الشاق والشائك والأشبه بخيار ما سمي “سين – سين” سابقاً الذي أفضى إلى نهاية دراماتيكية في الغدر الموصوف بحكومة الرئيس الحريري. وهو ما يتعيّن على الأطراف المؤيدين لمشروع التسوية الا يسقطوه لحظة في فهم الكثير من الجانب الرافض ترشيح فرنجية. والى أن تحصل المكاشفة وما يمكن ان تبدله او لا تبدله، لا يمكن في أي شكل تجاهل الصدمة الهائلة التي ترتسم عبر عودة شيء لم يكن متخيّلاً لا من تجربة توافق اميركي – سوري وفرضه امراً واقعاً فقط وإنما أيضاً من تجارب توافقات “فوقية” أيقظت كل الكوابيس المتصلة بعصر الوصاية نفسه سواء من جموح في الخوف او في ردة طبيعية متوقعة أمام هذا “الإنزال” المباغت بكل ظروفه ولاعبيه. يضاف إلى ذلك أن خطأ آخر سيرتكب الآن تحديداً من جانب الجميع وخصوصاً كل من هم خارج عصب قواعد 14 آذار وناسها، ما لم يفهم كل هؤلاء معنى التعبير الصارخ لرفع شعارات شهداء الاغتيالات وصورهم بموازاة رفض التسوية حتى حين ينجرف التعبير الحاد الى درجات المزايدة غير المقبولة.