«حزب الله« هو المشروع التغلّبيّ الفئوي الجديّ الأخير في هذا البلد، بعد أن أدّت جميع المشاريع التغلّبية الفئوية قسطها للعلى في العقود المنصرمة، بصرف النظر عن المكابرات النوستالجية التي تبدر بين الحين والحين.
يتميّز التغلّب الذي يقوده «حزب الله« عمّا سبقه في أنّه «الأكثر تحديثاً« لأدواته التنظيمية والتعبوية والدعائية، ويحتكم على موارد مادية ومعنوية وبش_رية أوسع بكثير من المشاريع التغلبية السابقة.
لكن التغلب الذي يقوده الحزب هو في الوقت عينه «الأكثر معاداة للحداثة«، من زاوية مرتكزات وقيم التنوير، والحريات العامة والخاصة، كما من زاوية تبني منطق الدولة الأمة، ومرجعية الدستور، وحاكمية القانون، لا يعني ذلك أن أخصامه من فئة تنويرية تقدمية تقرن أقوالها بالأفعال في ما خصّ حاكمية القانون، كما لا يعني ذلك أنّ مرجعية الدستور مقوّضة بسبب الحزب وحده في بلد تقلّصت فيه الدعائم، الهشّة أساساً، لما كان يقوم مقام العقد الاجتماعي، أي لما كان عقداً اجتماعياً عجيباً، لا مكان أساسي للمواطنة الفردية فيه، ولا مكان فيه في نفس الوقت للتكلم بشفافة ووضوح ومن دون عقد عن الاختلافات الفعلية بين الجماعات اللبنانية.
هذا المشروع التغلّبي للحزب في الداخل اللبناني وصل الى ذروته عام ألفين وأحد عشر، أكثر بكثير مما وصل اليه في غزوة السابع من أيار. إطاحته صلح الدوحة كانت لحظة الذروة وليس إبرام هذا الصلح قبل ذلك بثلاث سنوات، تحت الضغط الأمني المسلح الذي فرضه، والذي لطفت منه المفاوضة والرعاية العربية لها.
جاء اندلاع الأزمة السورية لـ «خربطة« حسابات الحزب. لا يمكن لأحد ان يجيب بدقة عمّا كانت لتكون عليه حال البلد لو انّ إطاحة الحزب صلح الدوحة لم يتبعها، مصادفة، انتقال مركز الأحداث بالنسبة اليه خصوصاً، من الداخل اللبناني الى الداخل السوري، وانزلاقه بشكل متسرّع الى هذا الداخل.
دخل هو في حرب الاستنزاف بسوريا، التي يدفع ثمنها مباشرة، بسبب من تدخله، الكثير من السوريين واللبنانيين، فيما دخل لبنان في كبوة. فترة برئيس من دون حكومة، إنما بقصر جمهوري يستهدف بالصواريخ. ثم فترة، صارت عهداً بكامله، من الفراغ الرئاسي، وحيث بات المرشحان المعلنان الرئيسيان من حلفاء الحزب، دون ان يمكن الحزب ايا منهما من الوصول إلى السدة، في حين انفجرت تركة «الاستقلال الثاني« بين الترشيحين، بشكل «لن يجبّرها« الا حدث تأسيسي قادم، إن أتى.
لكن تغلّبية الحزب اصطدمت بحالة من الانسداد والإقفال، بسبب من الاستنزاف في سوريا، كما بسبب من الكبوة العامة في لبنان، كبوة الدولة والمجتمع المدني والمجتمع بشكل عام، وتحوّل الأخبار المحلية الى شريط ملهاة مضحكة مبكية. بالطبع، قوة الحزب ترجع الى حد كبير لمكامن الضعف عن أخصامه. لكن ضعف أخصامه عندما وصل الى مرتبة عبثية، صار ينعكس عليه، وعلى مشروعه التغلّبي، الذي صار يظهر عبثياً أكثر من ذي قبل. أساساً، كي ترجّح نزعتك التغلّبية على بقية الجماعات، عليك ان تظهر السمة الكيانية التي يمكن ان تطرح على أساسها تغلّبك الفئوي كتغلّب جامع في مكان ما. أما تغلّب خارق للحدود، والكيانية اللبنانية، فهو تغلّب يهدر نفسه بنفسه.
لا يمكن انتظار اللحظة التي سيقرّ فيها الحزب بأن التغلّب وصل الى طريق مسدود. لن تحصل الامور هكذا. بالتوازي، فإن المبادرة رأساً للتفكير في واقع لبنان الدستوري والسياسي والاجتماعي بعد ان نضبت او ترنحت كل المشاريع التغلبية، هي مبادرة مشروعة ومرغوبة. ومن دونها، ستضيع الفائدة العملية من سؤال: ما العمل بعد «عودة« الحزب من سوريا؟