عندما قرّر الرئيس فؤاد شهاب اجراء اصلاح اداري وضع أسساً له تحقيقاً للعدالة والانصاف وذلك بانشاء هيئات رقابة تكون الكلمة لها في تعيين الموظفين ومحاسبتهم على مخالفاتهم، وظلت هذه الهيئات تعمل بهيبة وانتظام الى أن نشبت الحرب الداخلية فجعلت الدولة بكل مؤسساتها وسلطاتها شبه دولة. ووجد الفساد والفاسدون والمفسدون الفرصة سانحة لدخول الوزارات والمؤسسات والمصالح، ولم تكن للوصاية السورية على لبنان مصلحة في مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين فازداد انتشاراً، ولم يعد لتقارير هيئات الرقابة وما تتضمنه من اشارات الى المخالفات والاختلاسات من يهتم بتوصياتها، بل كانت توضع في الادراج وقلة من المسؤولين تقرأها وتطلع على ما فيها، ومن اهتم بها لم يكن في يده حيلة”.
لذلك فمنذ ان فقدت هيئات الرقابة هيبتها وفعاليتها راح الفساد والفاسدون والمفسدون يسرحون ويمرحون في كل دوائر الدولة ولا من يرى ولا من يسمع ولا من يحاسب على رغم ما تتضمنه التقارير من ذكر لمخالفات جسيمة واختلاسات فاضحة وواضحة، وقد جاء في بعضها، ولا سيما في تقارير التفتيش المركزي: “لقد بقيت الصعوبات تتصدر الهمّ الاداري وتدفع بالادارة الى مزيد من التقهقر والتراجع حتى أصبحت مضرب مثل في المحسوبية والاستغلال. ومن أجل سدّ النقص في الملاكات القيادية يلتف مسؤولون على القانون لعدم ملء المراكز الشاغرة باللجوء الى حالات التكليف المخالفة للقانون. والمشكو منه أكثر هو يقين مستشارين ومستشارين للمستشارين… يمارسون سلطة وظيفية ليست لهم ويحلّون محل الموظفين المختصين ولا يخضعون مثلهم لسلطة رقابية فتبقى أعمالهم بدون حسيب أو رقيب. وصدرت سلسلة قرارات وتشكلت لجان لتنفيذ توصيات التفتيش المركزي، لكنها لم تستطع تذليل الصعوبات وايجاد حلول للمشاكل الواردة في التقارير، خصوصاً في ما يتعلق بوزراء يوقعون “مع الاصرار والتأكيد” من دون تأشيرة المدير العام ومعرفته ومعرفة رؤساء المصالح خلافاً لقرار مجلس الوزراء، ما كشف سيلاً من المخالفات والفساد”.
ثم جاءت تقارير هيئة التفتيش المركزي على تناقض مع تقارير مجلس الخدمة المدنية من حيث تحميل مسؤوليات الفوضى والتسيب والهدر والتوظيفات العشوائية لهذه الجهة الرقابية او تلك، وبما تحمله من خلفيات سياسية وتجاذبات بين أهل الحكم، ماجعل الاتهامات متبادلة وقاسية بين التفتيش ومجلس الخدمة، وأكد هزال الادارة التي يسهل انتشار الرشوة فيها، ويؤكد ان الاصلاح الاداري لا يتم إلا باصلاح سياسي وبرفع الغطاء السياسي عن جميع الفاسدين.
وقد اقترحت لجنة خاصة كلفت درس تقارير التفتيش والخدمة المدنية بعمق استحداث مراقبة دائمة في كل وزارة تحرر المفتش من الضغط السياسي وعدم الاجازة للسلطة التنفيذية رفض قرارات مجلس الخدمة المدنية من دون تعليل.
لقد أصبح الكلام على الفساد كلاماً موسمياً وقصصه كقصص الحيّات لأن بعض السياسيين يدكّون ما تبقى من الادارة السليمة والنزيهة بتدخلاتهم، ويحوّلون ولاء الموظف لغير الدولة، فضلاً عن ان وزراء يحاولون تحويل وزاراتهم الى ممالك أو الى ملكية لهم… أضف ان الخلل في الادارة يعود الى عوامل عدة أبرزها الطائفية والمذهبية، بحيث ان التطهير يطاول دوماً صغار الموظفين وتبقى الرؤوس المدبرة سالمة، وما دام من الصعب فصل الادارة عن السياسة فلن يصير في الامكان وضع الموظف المناسب في المكان المناسب. وعندما يرفع الغطاء السياسي والطائفي عن الموظف تستطيع هيئات الرقابة عندئذ القيام بعملها، فلا تكفي المناداة باسقاط دولة المزارع ما لم يتم اسقاط من يزرعونها، ولا يكفي اعلان الحرب على الفساد ما لم تكن لهذه الحرب عدّتها، ولا عدّة حتى الآن سوى الكلام الطنان والبيانات الانشائية والخطب الرنانة. وما لم يقض على الفساد السياسي فسيكون من الصعب القضاء على الفساد الاداري كي يصير في الامكان المساعدة على معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، ووقف إهدار الاموال العامة وتلزيم المشاريع بالتراضي تحقيقاً لأرباح غير مشروعة كي يصير في الامكان تحسين أوضاع الموظفين من الوفر الحاصل في الخزينة ومن زيادة النمو والانتاج، فاستمرار الفساد في استباحة المال العام يجعل حجمه سنوياً يفوق الملياري دولار لتصبح مكافحته معركة طويلة الامد. ويصح عندئذ قول الشاعر: “قرفت السرقة من كتر ما سرقوا. يا ألف مرقة جَرَدْ بمحل ما مرقوا. والعار كدّو العرق من دون ما عرفوا”…