فتحت استقالة رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري الباب أمام أزمة في البلاد، وضعت التسوية التي قامت قبل عام على شفير الانهيار، وطرحت أسئلة عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه، وما إذا كانت مشرعة الأبواب على انفجارات أمنية محتملة.
لم تكن الأزمة الحالية الفريدة من نوعها، فهي بنيوية بكل معنى الكلمة، وقراءتها ليست معزولة عن القواعد التي قام عليها الكيان اللبناني ونظامه منذ الاستقلال، وتكرست في الميثاق الوطني، ولاحقاً في الاتفاقات التي كانت التسويات تفرضها، وهي قاعدة جوهرها عدم استخدام لبنان منصة لمعاداة أي قطر عربي، واتباع سياسة متوازنة لا تنحاز إلى أي محور إقليمي. وكان كل تجاوز لهذه القاعدة، على امتداد العقود الماضية، يؤدي إلى اختلال التوازن الداخلي، ويشرّع البلاد أمام التدخلات الخارجية، وينتهي المقام بدخول لبنان في حروب أهلية.
في حديثه الأخير من المملكة العربية السعودية، أعاد الرئيس الحريري أسباب استقالته إلى تجاوز أحد بنود التسوية التي أتت به وبميشال عون إلى الحكم، وهي عدم الالتزام بالنأي بالنفس عن الحروب الدائرة في المنطقة والتزام جانب الحياد تجاه أي طرف. واعتبر أن «حزب الله» الذي امتنع عن الالتزام بهذه القاعدة، وممارسة عكس ما تقرر لجهة التدخل العسكري في سورية والعراق واليمن من جهة، ومن تسعير الحملات العدائية ضد المملكة العربية السعودية، هو المسؤول عن الأزمة الحالية. لا يوضح الرئيس الحريري مضمون التسوية وكيف وافق عليها الحزب وهو المنخرط إلى أعماقه في أزمات المنطقة، وهل فعلاً أعطى الحزب هذه الوعود، أم إن كلاماً شكلياً تلفّظ به من أجل تمرير التسوية وانتخاب عون لرئاسة الجمهورية؟ الاستقالة تحمل من الأسئلة الكثير حول ما لا يعرفه اللبنانيون عن خفايا التسوية الرئاسية التي قامت العام الماضي.
إذاً، الأزمة الحالية هي نتاج الاختلال في العلاقات اللبنانية – العربية والانحياز إلى محور إقليمي قاعدته إيران وسورية. قد ينسى اللبنانيون أن أزمات مشابهة قامت في البلد، مع اختلاف بعض الظروف، أدت إلى اهتزاز الكيان والنظام وتسببت في حروب أهلية دموية. لكن الطبقة السياسية الطائفية الحاكمة تجهل التاريخ اللبناني أو تتناسى وقائعه التاريخية، سهواً أم عمداً. فالحرب الأهلية التي قامت في 1958، كانت حصيلة انحياز الحكم اللبناني إلى محور حلف بغداد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والذي كان في صراع مفتوح مع المد القومي العربي بقيادة الناصرية. كان ذلك أول تجاوزات الميثاق، فدفع اللبنانيون ثمنه. أنتجت تلك الحرب تسوية أميركية – ناصرية، وأتت بالرئيس فؤاد شهاب إلى سدة الحكم. يسجل لحكم الرئيس شهاب محافظته على سياسة النأي بالنفس عن الصراعات العربية – العربية آنذاك.
بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، دخل لبنان مرحلة جديدة فرضتها تحولات المنطقة، خصوصاً دخول العامل الفلسطيني لبنان وأقطاراً عربية أخرى. وقفت قوى لبنانية إلى جانب المقاومة ودعت إلى توظيف الساحة اللبنانية وفتح الحدود أمام العمل الفدائي ضد إسرائيل. في المقابل، اندفعت قوى لبنانية أخرى إلى الانحياز نحو المعسكر الأميركي – الإسرائيلي، والاستعانة به. انتهى هذا التحضير إلى اختلال التوازن وإلى انفجار الحرب الأهلية التي استمرت إلى 1989، تاريخ توقيع اتفاق الطائف. تلك الفترة شهدت انتهاكاً لقواعد الميثاق، فالقوى التي كانت إلى جانب المقاومة الفلسطينية حمّلت البلد فوق ما يستطيع من أعباء، فيما ذهبت الأطراف الأخرى المناهضة إلى التعاون مع إسرائيل واستدعائها لاقتلاع المقاومة وتنصيبها في سدة الحكم، عبر اجتياح 1982.
في السنوات الأخيرة، اندلعت انتفاضات في أكثر من بلد عربي، وكان أهمها بالنسبة إلى لبنان الانتفاضة السورية. في هذه المحطة، وضع البلد أمام امتحان عسير في كيفية الحفاظ على التوازن في علاقاته ومنع الانجرار إلى التدخل في الحرب السورية. ولأن الحرب السورية كانت لها امتدادات إقليمية وقوى متدخلة لمنع إسقاط النظام، ولأن المحور الإقليمي الإيراني له ذراع ضاربة يمثلها «حزب الله»، فقد تحول تدخل الحزب في المشاركة في الحرب إلى تعميق الانقسام في الداخل، نظراً إلى وقوف معظم القوى اللبنانية ضد هذا الانخراط، بالنظر إلى تأثيره السلبي جداً في الداخل اللبناني. كانت الانتفاضات وكيفية التعاطي معها مناسبة أخرى لضرب قاعدة النأي بالنفس التي قال بها الميثاق. وهي تهدد يومياً المجتمع اللبناني بمزيد من التفسخ والاضطراب، بما يضع البلاد حقاً على شفير الاقتتال الأهلي.
تلك محطات تفسر الأزمة الحالية بأقصى الوضوح، وعلى رغم أن أبطال تلك المرحلة بمعظمهم لا يزالون على قيد الحياة، ومعظمهم يتولى السلطة أو ينتظرها، فإن أحداً لم يتعلم الإفادة من دروس هذه المحطات. لعل المرحلة الحالية قد تكون الأصعب، نظراً إلى أن البلد بات مرهوناً للخارج، وأن التسويات تنتظر اتفاق المحاور الإقليمية والدولية. هذا إن وصلت إلى اتفاق في الأجل القريب.