هناك نوع من انطباع عام بأنّ الولايات المتحدة الأميركية قامت بردّ فعل انتقامي وعفوي وغير محسوب، من خلال إسقاطها نظام الرئيس صدام حسين رداً على أحداث 11 أيلول 2001، الأمر الذي أدّى إلى سقوط الحاجز أمام التمدُّد الإيراني، فهل هذا الانطباع في محله؟
ما يجب تأكيده هو انّ الولايات المتحدة كانت مدركة تماماً مدى الحاجة الى نظام صدام من أجل إبقاء المارد الإيراني داخل القمقم. وللدلالة إلى الرؤية الاستراتيجية الأميركية حيال إيران، نشير إلى واقعتين وثقهما الكاتب Steven Simon في كتابه The grand delusion; The rise and fall of American Ambition in the Middle East:
ـ الواقعة الأولى، بعد استخدام صدام حسين للأسلحة الكيماوية داخل العراق، وإبان حربه ضدّ أيران، طالبت بعض الأصوات الأميركية في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بفرض عقوبات شديدة عليه، الأمر الذي لم يحصل بسبب الخشية الأميركية من أن تؤدي هذه العقوبات إلى إضعاف العراق وتقوية إيران.
ـ الواقعة الثانية، بعد احتلال صدام للكويت طُرحت فكرة تدمير واشنطن للحرس الجمهوري العراقي، إلّا انّ هناك من حذّر الرئيس الأميركي من داخل إدارته من الإقدام على خطوة من هذا النوع تؤدي إلى فتح المنطقة أمام إيران، ونصحه بأن يتمّ الاكتفاء بتحرير الكويت، وكان كلام مستشاري الرئيس شديد الوضوح: المطلوب أولاً إضعاف صدام لا إسقاطه، والمطلوب ثانياً تجنُّب خلق فراغ تستفيد منه إيران، والمطلوب ثالثاً إبقاء التوازن العراقي ـ الإيراني.
وما تقدّم هو عينة من أمثلة كثيرة تثبت أنّ الولايات المتحدة كانت تدرك منذ اللحظة الأولى خطورة المشروع الإيراني التمدُّدي، كما تدرك الحاجة إلى نظام صدام لمنع تمدّدها، ما يعني انّ إسقاط النظام العراقي لم يكن مجرّد ردّ فعل عفوي وانتقامي وغرائزي رداً على أحداث 11 أيلول 2001، خصوصاً انّ واشنطن أطلقت حربها للإطاحة بصدام في 20 آذار 2003، وهذه الفترة الفاصلة بين المحطتين والتي امتدّت إلى سنة وستة أشهر تقريباً، كانت كافية لتغيير الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، من اعتبار نظام صدام الحاجز لمنع التوسُّع الإيراني، إلى إسقاط نظامه من أجل إزالة العوائق أمام تمدُّد الدور الإيراني في المنطقة.
فكان في استطاعة الجيش الأميركي بكل سهولة، ليس فقط دحر الجيش العراقي من الكويت، إنما ملاحقته إلى داخل العراق وإسقاط الرئيس العراقي منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وكانت هناك فرصة للتخلُّص منه والحجة قوية وحقيقية وهي غزوه للكويت، وليس كالحجة التي تبيّن عدم صحتها بوجود أسلحة دمار شامل نووية وكيماوية على الأراضي العراقية، وحيث لم يتمّ العثور على هذه الأسلحة.
ولكن عدم إسقاط صدام بعد إخراجه من الكويت كان سببه الرئيس الحفاظ على وظيفة نظامه الذي حوّل العراق دولة حاجز أمام التمدُّد الإيراني، وهذا يعني انّ إسقاطه لم يكن ردّ فعل ولا مجرّد مصادفة ولا قرار غير مدروس ولا خطأ في التكتيك ولا الاستراتيجيا، إنما خطوة مدروسة ولا بل أُشبعت درساً، وأدّت في محصلتها إلى تغيير عميق في سياسات واشنطن حيال الشرق الأوسط.
وقد دفع الرئيس صدام حسين ثمن تغيير الولايات المتحدة لسياستها الاستراتيجية في المنطقة، من تطويق إيران إلى إطلاق يدها، والسبب الرئيس لتغيير استراتيجيتها، الصدمة الكبرى التي خلّفتها أحداث 11 أيلول في عمق الوجدان الأميركي، ودفعت الدولة العميقة في الولايات المتحدة إلى وضع هدف معلن وآخر مضمر:
ـ الهدف المعلن هو نشر الديموقراطية وتعميمها بهدف مواجهة التطرُّف، وبالتالي التخلُّص من الأنظمة الديكتاتورية، وحضّ الأنظمة العربية كلها على تغيير مناهجها التعليمية ومزيد من التشدُّد في مواجهة الإرهاب.
ـ الهدف المضمر إطلاق يد إيران، وتحديداً الإسلام الشيعي الحاكم في طهران في مواجهة الإسلام السنّي، وذلك بعدما وصلت إلى استنتاج، بمعزل عن صحته من عدمها، مفاده انّ الدول العربية عاجزة عن مكافحة الإرهاب او انّها لا تقوم بالجهد الكافي لذلك، وبالتالي بدلاً من مواصلة سياسة تطويق إيران واستهداف الإرهاب للدول الغربية، رأت انّ الحل الأمثل يكمن في حرف أنظار المتطرّفين عن الغرب بإلهائهم بمواجهات بين بعضهم البعض، أي الإسلام السنّي في مواجهة الإسلام الشيعي، وتتحول واشنطن معه ضابط إيقاع هذا النزاع.
فهدف واشنطن كان بدلاً من ان تصبح في موقع الدفاع عن نفسها داخل الولايات المتحدة لحماية الشعب الأميركي من الهجمات الإرهابية، وبالتالي الانسحاب من العالم إلى الداخل الأميركي تحصيناً لوضعيتها، ارتأت اعتماد أسلوب الفعل والمبادرة والهجوم كأفضل وسائل الدفاع، وهجومها تمثّل بإطلاق يدّ إيران بهدف نقل النزاع من الإسلام المتطرِّف الذي يواجه الغرب وتحديداً واشنطن، إلى الإسلام الذي يتقاتل داخل دول الشرق الأوسط، وقد حقّقت هذه الاستراتيجية، بالنسبة الى مراكز الأبحاث الأميركية، أهدافها من خلال الآتي:
ـ أولاً، لم يعد الغرب هو الهدف الأول للإسلاميين، إنما فُتحت أمامهم جغرافيا الشرق الأوسط على مصراعيها للتقاتل فوقها وعليها.
ـ ثانياً، وفّر التقاتل بين المجموعات المتطرّفة على الغرب الكلفة البشرية والمادية لمواجهتهم والتخلُّص منهم.
ـ ثالثاً، أمّن التقاتل بين المجموعات المتطرّفة للولايات المتحدة معلومات استخبارية دقيقة عن هذه المجموعات والشبكات، وقد عمدت إلى التخلُّص منها تباعاً.
ـ رابعاً، حولّت إيران فزّاعة في مواجهة الدول العربية والخليجية، وتحويلها فزّاعة حقّق، بالنسبة إلى مراكز الأبحاث الأميركية، أغراضه على مستويين استراتيجيين:
المستوى الأول، التطبيع العربي والسنّي مع إسرائيل، وهذا التطبيع لم يكن ليحصل لولا شعور الدول العربية والخليجية بأنّ الخطر الوجودي الأول عليها متأتٍ من إيران لا من إسرائيل، وهذا الهدف ـ الحلم بالنسبة الى واشنطن وتل أبيب لم يكن ليتحقّق لو لم تُطلق واشنطن يد طهران في الشرق الأوسط، ولكن لا شك انّ القيادة الإيرانية خدمت في سلوكها وممارساتها الخطة الأميركية، فهل خدمتها عمداً، ام انّ مشروعها التوسعي أولويته تحقيق الأهداف بمعزل عن الوسائل؟
المستوى الثاني، الانتقال الجدّي والأول من نوعه للدول العربية والخليجية في اتجاه اعتماد سياسات تطويرية وتحديثية غير مسبوقة، والإرهاب لا يمكن القضاء عليه او تجفيف مصادره او تطويقه إلّا من خلال تغيير طبيعة المجتمعات لجهة نمط عيش الناس وتفكيرها، وهذا ما بدأ بالتحقُّق، ولم يكن ليتحقّق لولا شعور هذه الدول الحقيقي بالتهديد الوجودي الذي مثلته إيران، والحاجة إلى سياسات بديلة على غرار التنافس التاريخي بين الغرب والاتحاد السوفياتي وسقوط الأخير بفعل عدم قدرته على اللحاق بالتطور الغربي.
وتأسيساً على ما تقدّم، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل ما زالت إيران حاجة أميركية، ما يعني انّ سياسة إطلاق يدها ستبقى مستمرة، أم انّ هذه الحاجة قد انتفت بعد ان حقّقت أهدافها؟ وهل من أهداف أخرى تسعى واشنطن لتحقيقها بواسطة طهران؟ ولماذا تتخلّى واشنطن أساساً عن طهران التي حقّقت لها ما عجزت هي عن تحقيقه من أهداف استراتيجية؟ وهل في استطاعة أميركا التوفيق وكيف، بين حاجتها لإيران لاعتبارات تبدأ بالتوازن ولا تنتهي بالتسلُّح، وبين اقتناع حليفتها الاستراتيجية إسرائيل بأنّ الدور الإيراني لا النووي فقط أصبح يهدِّد وجودها، وانّ الحل بإسقاط النظام الإيراني او تغيير دوره؟
(يُتبع حلقة ثانية)