لا حل إلا باستقالة الحكومة. قالها المتظاهرون مراراً. وقد وصلت الرسالة إلى الرئيس تمام سلام وتفاعل معها، أو يكاد.. لكن كل الزعماء الباقين لم يسمعوها، وإن سمعوها استخفوا بها. أما التهويل السياسي بعدم شل آخر مؤسسة شرعية، فلا يستوي مع الواقع: وجود الحكومة لم يساهم في حل أي من الملفات العالقة، إنما ساهم في الإبقاء على آخر معاقل الطبقة السياسية، وذهابها لن يزيد مآسي البلد الذي يزداد غرقاً بنفايات الساسة وفسادهم. لذلك، من قال: «طلعت ريحتكم» قالها غير آبه بالتهويل. لا حل إلا بإعادة تكوين السلطة.. بعد رحيل هذه الطبقة السياسية. والفراغ الشامل، في هذه الحالة، ربما يكون ممراً إلزامياً لإنقاذ البلد.
المشهد أمام السرايا الحكومي يعبّر عن قرف الناس. أناس يتجمعون من كل حدب وصوب، جل ما يطلبونه هو سحب المعول من يد السلطة، لعلها تكف عن تعميق الحفرة التي ترميهم فيها. إذا نجح هؤلاء في حماية تحركهم، لن يقبلوا، بعد الآن، بأقل من إسقاط الحكومة، بعدما أسيلت دماؤهم.
من نزل إلى الشارع، إن كان في وسط بيروت أو في المناطق، كانت مطالبه بسيطة بدايةً. وقف في وجه الطغمة المالية التي لم تبالِ في إغراق الناس بالنفايات، تمهيداً لتفصيل الصفقات على قياسها. وزير البيئة قد لا يكون مسؤولاً مباشرة عما جرى، لكنه مسؤول بوصفه وزير الوصاية وكان لا بد أن يستقيل.. لكنه لم يفعل. وزير الداخلية قد لا يكون مسؤولاً مباشرة عن إطلاق النار على الناس، لكنه مسؤول بصفته المولج بحمايتهم لا إطلاق النار عليهم وكان عليه أن يستقيل.. لكنه لم يفعل. وزير التربية أيضاً كان يجب أن يستقيل حين فشل في تأمين حقوق المعلمين، لكنه فضّل الانقلاب على مصالحهم، حتى صار اسمه «وزير الإفادات» الذي يسعى للاستفادة من وجع الناس في معركته السياسية، فإذ بحناجرهم تطرده، لأنه جزء من السلطة التي يطالبون باستقالتها، وتهتف لحنا غريب لأنه يمثلها.
القرار حاسم في التظاهرة الموجهة ضد الطبقة السياسية كاملة: دعوة للمحاسبة الفورية للمعتدين على المتظاهرين ومن يقف وراءهم. والأهم «لا نريد دعماً سياسياً من أحد». إذ لا يعقل أن يأتيهم الدعم من تمام سلام وميشال عون وسمير جعجع وسامي الجميل وسعد الحريري.. وهؤلاء جميعهم متهمون بـ «التواطؤ ضد مصالح الشعب».
ليس بالضرورة أن يكون الاعتصام منظماً. تلك نقطة تحسب له لا العكس. أن لا يجد المسؤولون رأساً أو حزباً قائداً للتحرك، كما اعتادوا، أربكهم. كان السؤال الأبرز من يمون على المعتصمين؟ «لا أحد»، كان الجواب. لكن من اعتاد التعامل مع الناس كقطيع لم يستوعب الأمر ولا يزال يبحث عن «الرأس المدبر». وهؤلاء أنفسهم لا يزالون يعولون على زرع القسمة بين المتظاهرين.. كما فعلوا أيام تظاهرات «إسقاط النظام الطائفي».
تلك حركة عفوية انطلقت متواضعة بقرار من مجموعة صغيرة من الشباب، ثم صارت ضخمة. ضربت على وتر الناس ووجعها، فنزل من لم ينزل يوماً إلى الشارع. أبسط المطالب كان استقالة الحكومة العاجزة، وإسقاط النظام المتهالك الذي يحميها، والذي استنفر كل أركانه خوفاً من «تهور سلام»، الذي قد يدمر آخر مداميك الهيكل، الذي بني على أنقاض الدولة. استنفر نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، محذرين سلام من الاستقالة، من خلال إعلانهم دعمه وتمسكهم بالحكومة. بعضهم لم يستوعب حجم الاعتراض الشعبي بعد، فلم يسمع من المطالب سوى قديمها، ظاناً أن الانتهاء من مناقصات النفايات، التي يفترض أن يتبعها إعادة فتح مطمر الناعمة، ستفرز المتظاهرين بين «أصحاب مطالب محقة» و«أصحاب مطالب غير واقعية». فاتهم أن أحداً من المتظاهرين لم يعد يأبه لأزمة النفايات، إلا بوصفها أحد دلائل انهيار النظام.
محاولات السلطة لا تهدأ لخرق التحرك. كان «المندسون»، الذين وصفهم بعض المنظمين بـ «شبيحة الأحزاب السياسية»، كثراً أمس وأمس الأول. سعوا تكراراً إلى ضرب سلمية التحرك.. والتمهيد للصدام مع القوى الأمنية، فنجحوا مرات عديدة. بعض آخر سعى إلى تبرئة هذا الجهاز الأمني أو ذاك من دماء المتظاهرين، إلا أن الكاميرات والهواتف وثّقت تورط الجميع، من جيش وقوى أمنية. من طالب باستلام حكومة عسكرية للحكم ليس بريئاً. تكرر الأمر مع عدد من الذين توزعوا بين الشاشات التي تنقل الحدث مباشرة. المتظاهرون يرفضون قطعياً، استبدال سلطة الفساد بسلطة العسكر لأنهم مقتنعون أن هذه من تلك.
قد يكون الحديث عن بديل السلطة الحالية حالماً أو سابقاً لأوانه، لكن التفكير بذلك قد بدأ فعلاً، بالرغم من القلق من إمكانية ضياع الحلم مجدداً، إثر اشتباكات أمس. عدد من المنظمين يتحدث عن استلام الشعب للسلطة من خلال «اللجان الثورية»، وبعضهم يكتفي بدعوة الحكومة إلى الاستقالة وإجراء انتخابات سريعة من خلال حكومة تصريف الأعمال، يعاد عبرها تشكيل السلطة.