يكاد ما سمعناه وقرأناه وشاهدناه على شاشات التلفزة على مدى الساعات القليلة الماضية أشبه بزلزال قضائي وقانوني كاد أو يكاد يهزّ عرش القضاة والقضاء برمّته في لبنان.
أحداث دراماتيكية متسارعة عاشها لبنان وكل اللبنانيين بدءاً من لحظة إعلان القاضي المسؤول عن التحقيق بملف انفجار المرفأ طارق البيطار مطالعته القانونية التي أصّر على انه قد أعدّها بنفسه وان تلك المطالعة تخوّله متابعة لا بل مواكبة التحقيق بهذا الملف دون العودة الى أحد مبرراً ذلك بسلسلة من المواد القانونية التي تخوّله القيام بهذه المهمة والتي من شأنها أن تبرز المراحل التي قطعها التحقيق في هذا الملف المصيري الخطير والمراحل التي سينطلق منها القاضي بيطار لإستئناف التحقيق مع من استدعاهم من مسؤولين سياسيين وأمنيين وقضاة وغيرهم في هذا السياق. والملاحظ ان كل ذلك قد أتى في أعقاب زيارة الوفد القضائي الأوروبي الأخيرة الى لبنان والتي التقى خلالها بالقاضي بيطار في منزله بعيداً عن الأضواء ووسائل الإعلام كما تردد بهذا الشأن.
إلا أن «القنبلة» القضائية التي فجّرها مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، اثر ما تسرّب من وقائع ومعلومات أتت في مطالعة القاضي بيطار من خلال استدعائه لتلك الشخصيات من الصف الأول ومن ضمنها القاضي غسان عويدات نفسه للتحقيق معهم نسفت كل التوقعات والمعطيات التي استند إليها القاضي بيطار في ملفه القضائي والقانوني فأتى قرار القاضي عويدات بالافراج عن جميع الموقوفين الـ ١٧ رهن التحقيق في هذا الملف منذ ما يقارب الثلاث سنوات وبالتالي استدعاء القاضي بيطار للمثول أمامه ومن ثم اتخاذ قرار باحالته الى التفتيش القضائي، أضف الى ذلك إبلاغ اللواء عباس إبراهيم قرار القاضي عويدات بمنع القاضي بيطار من السفر.
من هنا بدأ الجدل القضائي والقانوني يتفاعل حول قرارات كل من القاضيين بيطار وعويدات وكأن كل منهما بات يغرّد خارج سربه القضائي دون الأخذ بعين الاعتبار خلفيات وتداعيات ما حصل وما قد يحصل من جراء هذا الزلزال القضائي المستجد.
البعض يشبّه ما جرى ويجري «بالعصفورية» فيما اعتبر آخرون اننا بتنا نعيش في ما يشبه «سيرك» قد جذب القريب والبعيد بمشاهدة وسماع أدق التفاصيل لما يجري في أروقة قصر العدل والحيثيات الناتجة عن ذلك وانتظار الى أين ستؤول الأمور لهذا التطور القضائي وأحداثه المتسارعة ساعة بعد ساعة نظراً لخطورة ودقة لا بل صعوبة الوصول الى قواسم مشتركة من شأنها تقريب وجهات النظر على الأقل في هذا النزاع القضائي وإيجاد الحلول التي من شأنها أن تعيد الأمور الى نصابها القانوني البحت على الأقل وكل ذلك يواكب ما يشبه الشلل على صعيد البت بهذا النزاع الطارئ من قبل المراجع القضائية العليا في البلد خاصة مجلس القضاء الأعلى الذي هو أعلى سلطة قضائية من أبسط واجباتها أن تفصل ما بين المتنازعين أو على الأقل أن تضع حدّاً للمهاترات والتشنجات الكلامية والإعلامية التي باتت على كل شفة ولسان من اللبنانيين وغير اللبنانيين وأن تسدل الستارة ولو مؤقتاً على الأقل عن هذا النزاع القضائي الذي وصل الى حد «كسر العضم» بين بيطار وعويدات من جهة، ومع أطراف أخرى ارتبط اسمها بملف الرابع من آب من جهة ثانية دون أن يتمكن أحد حتى الآن من الجزم أو التأكيد عما إذا كان لتلك الأسماء أو الشخصيات علاقة ما من قريب أو بعيد بملف انفجار المرفأ بإنتظار ما ستسفر عنه التحقيقات التي كانت تجري الى حين توقفها بسبب سلسلة الدعاوى التي أقيمت ضد القاضي بيطار مطالبة بكف يده عن هذا الملف منذ حوالي السنة، أو بتعيين قاض رديف له. مما أدّى الى وضع ملف التحقيقات «في ثلاجة الانتظار» حتى الأمس القريب.
أسئلة كثيرة طرحت ولا تزال تطرح من قبل المعنيين بهذا الشأن كما عبر وسائل الإعلام وأبرز تلك الأسئلة : لماذا استفاق القاضي بيطار الآن وأعاد تحريك الملف لا سيما بعد زيارة الوفد القضائي الأوروبي له في منزله وأظهر مطالعته القانونية واضعاً إياها تحت الضوء، كما ولماذا تم تسريب بعض القرارات التي اتخذها القاضي بيطار عبر وسائل الإعلام بشأن اطلاقه لخمسة من الموقوفين واستدعائه لثمانية أشخاص جدد آخرين للتحقيق معهم، مع الإشارة الى ان ذلك يعتبر عملاً غير مألوف بتسريب المعطيات والمعلومات مسبقاً والقرارات ذات الصلة عبر وسائل الإعلام بأي شكل من الأشكال.
سؤال آخر أيضاً يطرح بإلحاح ألا وهو الى أي حد استفز ما قام به القاضي بيطار مدعي عام التمييز القاضي عويدات فشرب الأخير «حليب السباع» وأصدر سلسلة قراراته دون العودة الى أحد.
كل ذلك أتى ويأتي في ظل «عصفورية» أخرى تشهدها البلاد والعباد في هذا الوطن الممزق بكل ما للكلمة من معنى سياسياً ومالياً واقتصادياً واجتماعياً وقضائياً مع بعض الاهتزازات الأمنية التي تستجد يومياً من خلال قطع بعض الطرقات بين الحين والآخر مع ما يواكب ذلك من تحرك لأهالي ضحايا المرفأ احتجاجاً على قرارات القاضي عويدات.
ترى هل بات من الممكن إستعادة هيبة القضاء وسمعته وكيف سيكون المشهد عليه في أروقة ومكاتب قصر العدل من الآن وصاعداً خاصة بين القضاة المتنازعين أنفسهم من جهة ومع زملائهم القضاة الآخرين من جهة أخرى، وبالتالي كيف ستكون صورة كل من المجلس العدلي ومجلس القضاء الأعلى مستقبلاً وأين يكمن دور وزير العدل للفصل في هذا النزاع القضائي الذي يكاد لا يبقي ولا يذر من مواد قانونية وقضائية يتم الاستناد إليها تحت قوس العدالة وفي ظل شعار «العدل أساس الملك» الذي قد يصبح في خبر كان في بلد أصبح دولاره يلامس أرقاماً خيالية يوماً بعد يوم لا بل ساعة بعد ساعة. ناهيك بالصراعات السياسية بشأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان وجلسات مجلس النواب المتكررة حتى الآن دون جدوى إضافة الى الخلافات بشأن قانونية انعقاد جلسات مجلس الوزراء أو عدمه وهذا بدوره يشهد شد حبال مستمر بين كل الأطراف السياسية في البلد دون رحمة أو هوادة مما يزيد في تعقيد كل الأمور تاركاً الآثار السلبية على مختلف القطاعات الحيوية في البلد وعلى مختلف اللبنانيين دون استثناء.
أخيراً وليس آخراً الى أين ستذهب الأمور في ملف انفجار المرفأ من الآن وصاعداً في ظل كل المستجدات على هذا الصعيد قضائياً وقانونياً وسياسياً بالإضافة طبعاً الى ما يدور في فلك هذا الملف على صعيد الداخل والخارج في آن معاً لا سيما التحقيق الفرنسي والأوروبي وما حمله معه الوفد القضائي الأوروبي مؤخراً الى لبنان وبالتالي هل زوّد الوفد أو تزوّد بأية معلومات أو صور أو براهين تتعلق بإنفجار العصر الذي دمّر نصف العاصمة بيروت وأدّى الى ما أدّى إليه من وقوع ضحايا وجرحى وخسائر مادية كبيرة جداً، وهل حمل الوفد معه أيضاً ما يساعد على وضع اليد على الجرح لمعرفة الحقيقة أو على الأقل جزء منها مما يسهل على التحقيق المحلي أو الدولي لكشف المستور عن انفجار الرابع من آب؟
ملفات خطيرة أخرى كانت قد وضعت لبنان تحت المجهر بدءاً من جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتداعياتها مروراً بإنفجار مرفأ بيروت وصولاً الى الزلزال في الجسم القضائي الذي نشهده حالياً وغيرها، لذلك يجب الإسراع في تدارك الأسوأ قبل سقوط لبنان في الهاوية وحينها قد لا ينفع الندم وبات أيضاً من المُلحّ إنقاذ لبنان واللبنانيين من الدرك الخطير قبل أن يصبح «القدر والقضاء» وحده من يتحكم بمصير البلاد والعباد في هذا الوطن الجريح.