خطوط الفصل داخل قصر العدل وخطّة التدمير الثاني
ليست المرّة الأولى التي ينقسم فيها القضاء في لبنان. حصل الإنقسام على عهد حكومة العماد ميشال عون العسكرية وبعد انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة الرئيس سليم الحص وتعيين النائب إدمون رزق وزيراً للعدل بينما كان في المقلب الآخر اللواء عصام أبو جمرا وزير العدل في حكومة عون التي كلّفت الضابط فريد بو مرعي متابعة شؤون الوزارة من بين الضباط الذين كلّفوا بالإشراف على الوزارات كافة.
خلال حرب الإلغاء، حوّل عون قصر العدل في بيروت إلى موقع عسكري على الجبهة مع منطقة الأشرفية التي كانت تسيطر عليها «القوات اللبنانية». وبفعل هذا الأمر هجر القضاة مكاتبهم وتهجّرت المحاكم. ما يحصل اليوم داخل قصور العدل أخطر من تجربة الإنقسام الذي عاشه القضاء في العامين 1989 و1990. فالإنقسام ليس بين وزيرين بل بين القضاة وداخل المحاكم، بعد تجربة مريرة عاشها القضاء مرّة ثانية في عهد الرئيس ميشال عون، منذ تمسّك بوزارة العدل وعيّن الوزراء المحسوبين عليه فيها، الأمر الذي لم يحصل حتى في أيام الحرب بين العامين 1975 و1988.
الإنقسام والتوحيد
في 22 أيلول 1990 عيّنت حكومة الرئيس سليم الحص القاضي عاطف النقيب رئيساً أوّل لمحكمة التمييز، وبالتالي لمجلس القضاء الأعلى، كأول قاضٍ مسلم سني يتبوّأ هذا المنصب. وعيّنت في المقابل القاضي موريس خوّام مدّعياً عاماً تمييزياً والقاضي فيليب خيرالله رئيساً أول لمحكمة استئناف بيروت، وكان يمارس عمله في قصر عدل بعبدا. وقد سارعت حكومة العماد عون إلى الردّ على هذه التعيينات بتعيين خيرالله رئيساً أول لمحكمة التمييز والقاضي سليم العازار مدّعياً عاماً تمييزياً. وفي 27 أيلول زار العميد فريد بو مرعي القاضي خير الله مكلَّفاً من الوزير أبو جمرا ليبلّغه أنّ عون يريده أن يؤدّي مع العازار اليمين القانونية أمامه، وأنّ أبو جمرا استصدر من مجلس الوزراء مرسوماً تشريعياً يخوِّل الحكومة برئاسة عون إجراء تشكيلات قضائية من دون الرجوع إلى مجلس القضاء الأعلى باعتبار أنه غير قائم في عرف هذه الحكومة.
تريّث خيرالله في قبول العرض، وانتقل إلى قريته زيتون في فتوح كسروان، وتحجّج بقطع طريق نهر الكلب لعدم المثول أمام عون. في 13 تشرين الأول 1990 انتهت اللعبة وبدأ مسار جديد في توحيد القضاء. ما فعله عون خلال رئاسته للجمهورية لم يختلف عمّا فعله عندما كان رئيساً للحكومة العسكرية، حيث أنّه أوقف التشكيلات القضائية وأسهم في تكريس هذه الفوضى القضائية التي قسمت الجسم القضائي في ظل وجود وزير محسوب عليه، من الوزير سليم جريصاتي إلى الوزير ألبرت سرحان والوزيرة ماري كلود نجم إلى الوزير الحالي القاضي هنري خوري.
جبهات ومشهد سوريالي
صحيح أنّ الوزارة عادت وتوحّدت بعد العام 1990 وعاد العمل إلى قصر العدل الذي تمّ تنظيفه من آثار الحرب، ولكن روح العدالة بقيت غائبة عنه بسبب إخضاعه للسلطة السياسية طوال عهد الوصاية وللخلافات والمناكفات بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو الأمر الذي قاد إلى إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وبقضية اغتياله. ما يحصل اليوم في القضاء أكثر خطورة مما كان عليه في السابق. قصر العدل الذي كان موقعاً عسكرياً على جبهة من جبهات الحرب دخلت الحرب إليه وبات منقسما إلى جبهات تتقاتل تحت قوس العدالة.
في ظل هذا الإنقسام ثمة مشهد سوريالي تدور أحداثه على مسرح مجلس النواب في لجنة الإدارة والعدل التي ناقشت مثلاً في 21 شباط إقتراح قانون إستقلالية القضاء العدلي، على ضوء ملاحظات وزارة العدل، ويتناول النقاش المواد التي تتعلّق بممارسة القضاة عملهم باستقلالية، ومنها توجيه الدعوة من قبل مجلس القضاء الأعلى إلى انتخاب بديل عنه عند انتهاء ولايته، وحالات شغور مراكز في المجلس المذكور، أمانة سر المجلس التي ركّزت اللجنة من خلال ما أقرّته على وجود هيكلية كاملة لها، الجمعية العامة للقضاة وترؤسها، إجتماعات مجلس القضاء الأعلى، الطعن بالقرارات الفردية التي تصدر عن مجلس القضاء الأعلى، وضرورة اعتمادها تطبيقاً لمبدأ العدالة، تشكيل محكمة التمييز، مسألة توزيع الأعمال حفاظاً على مبدأ العدالة بين القضاة.
لا تتعلّق المسألة نظرياً بموضوع استقلالية القضاء. إذ كيف يمكن البحث عن هذه الإستقلالية في ظلّ نظام سياسي لا يقبل بها وفي ظلّ وجود قضاة غير مستقلّين، وفي ظلّ توزّع الحصص والتعيينات؟ في مثل هذا الوضع ماذا يفيد البحث بطريقة اختيار الأعضاء العشرة في مجلس القضاء الأعلى إن كان بانتخابهم كلّهم أو بعضهم من الجسم القضائي، أو بتعيين بعضهم أو كلهم من السلطة السياسية؟
تجربة سهيل عبود
عندما عيِّن القاضي سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى كان ثمّة رهان لدى العهد العوني على أن يكون منفِّذاً لسياسته داخل القضاء. ولكن عندما أصدر عبود مع مجلس القضاء الأعلى التشكيلات القضائية أوقفها الرئيس عون لأنّه اعتبرها غير مراعية لوحدة المعايير، بينما كان السبب الرئيس هو الإبقاء على القاضية غادة عون كنائب عام استئنافي في جبل لبنان. ونتيجة ذلك تجمّدت التشكيلات. وبدل أن تكون بداية انطلاقة جديدة للعمل القضائي كانت بداية الإنحدار نحو جهنّم. فإذا كان الرئيس الأول قد بحث عن بداية للإستقلالية في العمل القضائي بدأت عملية الإنقضاض عليه وتطويقه بعد الفشل في تطويعه.
ولذلك ومن باب الحصار والعودة إلى الإمساك بالقرار عيّن مجلس الوزراء أربعة قضاة في مجلس القضاء الأعلى يمون عليهم العهد وحلفاؤه ليكون هذا التعيين بمثابة انقلاب داخل الجسم القضائي بدأت معالمه تظهر بعد الصراع على حصانة المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. دخل الصراع إلى داخل مجلس القضاء الأعلى فانقسم لتنقسم الصورة أيضاً داخل القضاء بين مستويين من العمل والممارسة: طريقة عمل القاضي طارق البيطار وطريقة عمل القاضية غادة عون.
بين البيطار وعون
يعتبر البعض أنّ مسؤولية الخروج من هذا المستنقع ومن هذا الصراع تقع على رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود. ولكن في الواقع مسؤولية عبود محدودة. ذلك أنّ القرار يعود حكماً إلى مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه عبود ولا يتمتّع بسلطة القرار فيه. لأنّ القرارات خاضعة للتصويت ولاكتمال النصاب الذي يتطلّب حضور ستة أعضاء من أصل عشرة يشكّلون الأكثرية التي أريد من خلالها شلّ عبود وفرض القرارات عليه بموازاة الحملات التي يتعرّض لها مع القاضي البيطار.
على رغم ذلك يعتصم عبود والبيطار بالصمت. لا يردّ عبود على الحملات الجائرة التي يتعرّض لها ومن ضمن أهدافها حمله على الإستقالة، بينما يعتبر أنّه باقٍ في موقعه على رغم كل شيء وأنّه لن يوافق على كل ما يخرج عن منطق العدالة والقانون والمؤسسات. وعلى رغم عدم تمتّعه بأي حماية أمنية، فهو لا يتراجع عن السقف الذي وضعه لنفسه منذ تبوّأ هذا الموقع بحيث يمكنه في أسوأ الأحوال أن يحافظ على استقلاليته من دون أن يقبل بأن تُسجَّل عليه نقطة سلبية واحدة لجهة تنازله عن دوره وقبوله بتجاوز هذا الدور والخضوع للتدخّلات التي يعتبر أنّها تجاوز للقانون والعدالة وروح الحق.
ولذلك يهمّه أن يبقى صامداً في وجه العاصفة والحصار الذي بدأ مع رفض عون التشكيلات القضائية، واستُكمِل برفض وزير المالية يوسف الخليل توقيع مرسوم تشكيلات محكمة التمييز الموجود عنده منذ آذار 2022، وهو المرسوم الذي كان ينتظر من خلاله اكتمال هيئة محكمة التمييز وتأمين آلية البتّ بطلبات ردّ المحقق العدلي طارق البيطار قبل أن ينتفض ويستعيد صلاحياته بعيداً عن هذا المسار المقفل على قاعدة أنّ المحقق العدلي لا يمكن ردّه.
كعبود يعتصم البيطار بالصمت ولا يردّ على الحملات والإتهامات والتخوين والتهديدات التي تطاول عائلته وحياته. وهو يدرك أنّ ثمّة محاولات لاستدراجه إلى التحدّث عن بعض ما تكوّن لديه من معطيات في الملف لتبرير الإدّعاءات التي يقوم بها والدفاع عن التحقيق. ولكنّه لا يفعل وأكثر ما يصرح به أنّه متمسّك بموقعه ولن يتخلّى عن التحقيق رغم تهديده وتقديم الدعاوى ضدّه بهدف وقف التحقيق وعدم تعاون الضابطة العدلية معه وادعاء مدعي عام التمييز عليه وكأنّه يخضع للمحاكمة من المتّهمين الذي يحاكمهم.
على المقلب الآخر ترفض القاضية غادة عون أن تتبلّغ أي طلب لردّها مع أنها لا تتمتّع بصلاحيات مماثلة لما يتمتّع به المحقق العدلي. وهي تعتمد الإثارة الشعبية والقضائية في تحريك الملفات وتستعرض في المداهمات ولا تتوانى عن الظهور الإعلامي بمساندة من «التيار الوطني الحر» الذي يواكبها، وهي متّهمة من منتقديها بمخالفة الأصول والعمل خارج أصول ما يفرضه عليها العمل القضائي، وتستعين بمن هم خارج الجسم القضائي. وهي تستخدم وسائل التواصل الإجتماعي وتُكثِر من التغريدات وتهاجم في معرض الدفاع عمّا تعتبر أنّه من حقّها أن تعمله. وهي على رغم مثولها أمام مجلس القضاء الأعلى وإحالتها إلى التفتيش القضائي مستمرة في العمل قبل أن يصل الأمر إلى استصدار رئيس حكومة تصريف الأعمال قراراً بلّغه إلى وزير الداخلية لمنع أجهزة الوزارة الأمنية من تنفيذ قراراتها ومواكبتها بعدما كانت تعتمد على مساندة من جهاز أمن الدولة.
ما يحصل اليوم في أروقة قصر العدل ليس إلا انهياراً للعدالة عبر إقامة خطوط فصل ومتاريس بين القضاة والأجهزة الأمنية والسياسية والقضائية. صورة تعكس الواقع السياسي لا خروج منها إلا بتغيير الحكم والممسكين به لوضع حد لعملية التدمير الثاني التي يتعرّض لها قصر العدل بالبشر قبل الحجر.