أثناء الاجتياح الاسرائيلي لبيروت في عام 1982 ، لجأ فصيل من الفصائل الفلسطينية من مخيم صبرا وأقام مركزاً له في بناية (تحت الإنجاز) في شارع مار الياس ملاصقة لبناء كنت أقيم مع عائلتي في احدى شققه في الطابق السابع . زرع الفصيل فوق سطح المبنى جهاز التقاط وبثّ للرسائل الهوائية . حدد الاسرائيليون موقع هذا الفصيل من خلال التقاط موجات الجهاز. فقصفوا المبنى من البحر بثلاث قذائف فوسفورية . لم تصب القذائف الثلاث المبنى . أصابت بيتي المجاور له . اخترقت احدى القذائف الصالون وانفجرت في المركز التجاري التابع لجمعية المقاصد الاسلامية . ربضت القذيفة الثانية من دون أن تنفجر أمام المدخل . أما القذيفة الثالثة فانفجرت في الصالون وأحدثت فجوة مع الطابق السادس . كانت القنابل الثلاث فوسفورية حارقة لم تترك شيئاً إلا والتهمته . من نِعم الله انني وعائلتي لم نكن في البيت . كنا نقيم كلاجئين في منتجع هوليداي بيتش في انطلياس . ولولا تدخّل الرئيس أمين الجميل شخصياً لتعذر تأجيري الشقة الصغيرة. وربما لاضطررنا الى البقاء في بيروت .. ولِما كانت كل هذه القصة ولا من يرويها .
أستذكر هذه الوقائع اليوم في ضوء المؤتمر الذي عُقد في بيروت بين حركة حماس وحزب الله، وهو المؤتمر الذي أعطى انطباعاً عاماً بأن لبنان سيعود –او سيبقى- الموقع الوحيد في العالم العربي (من المحيط الى الخليج) المقاوم للعدوان الاسرائيلي .
لم يصدر الإعلان عن هذا الموقع عن الدولة اللبنانية ولا حتى عن مؤتمر وطني لبناني . صدر من وراء ظهر الاثنين معاً ، الدولة اللبنانية والشعب اللبناني . وصدر في وقت يشهد تهافتاً في عمليات التطبيع العربي مع اسرائيل سراً وعلانية بحيث يبدو لبنان وكأنه «العاشق الوحيد « لتلقي تبعات المقاومة على كتفيه !!.
نستذكر بألم كيف أدى استفراد لبنان بالمقاومة الفلسطينية ، واستفراده بالعدوان الاسرائيلي الى تدمير بنيته التحتية ، والى تدمير وحدته الوطنية . وكيف دفع –ولا يزال يدفع- ثمن التدميرين حتى اليوم غالياً جداً .
علّمتنا التجربة اننا نستطيع ان نذهب بعيداً في التضحيات دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة ، والتصدي للعدوان الاسرائيلي التوسعي ، ولكن ليس على حساب وحدتنا الوطنية ومصيرنا الواحد .
خطئان ارتكبناهما كلبنانيين ودفعنا ثمنهما غالياً جداً . خطأ تجاوز مساوئ وأخطار التسلح الفلسطيني خارج المخيمات واستعمال السلاح في لبنان وليس من لبنان ، وتجاوز العمل المسلح بإسم المقاومة مظاهر سيادة الدولة اللبنانية وشرعيتها ؛ وخطأ تجاوز الولاء الوطني والارتماء في أحضان العدوان الاسرائيي بحثاً عن نصير (وهمي).
ولقد أثبتت التجربة انه لا الاحتماء بالسلاح الفلسطيني ولا الاستقواء بالسلاح الاسرائيلي أنقذ لبنان ، أو ساعده على إنقاذ نفسه . وكانت النتيجة ان الخطأين تكاملا في عملية التدمير الذاتي للدولة ولسيادتها ، فلم يلغِ أحدهما الآخر ، ولم يؤدِ حتى الى ليّ ذراع الآخر . بل انهما تعاونا من حيث لا يريدان ومن حيث لا يدركان عل المزيد من قتل البشر ومن تدمير الحجر ، حتى انه لم يعد يبقى للدولة من أثر .
من أجل ذلك ، وحتى يستطيع لبنان أن يدعم القضية الفلسطينية اليوم ، يجب ان يكون لبنان أولاً. وأن يكون قادراً على تقديم الدعم ثانياً. غير ان تجاوزه من خلال تجاوز الدولة باعتبارها الجهة الشرعية الوحيدة التي لها حق إمتلاك السلاح واستخدامه ، وتجاوزه ايضاً كصاحب الحق الشرعي والحصري باتخاذ القرارات السيادية بما فيها قرارات الحرب والسلم .
إن هذا التجاوز ببعديْه يستدرج لبنان الى حيث يجب أن لا يكون . أي الى الجبهة القتالية الوحيدة ضد عدو تتسارع دول عربية الى السلام معه والى السلام عليه !!
لا مصلحة للبنان في ان ينضم الى هذه المسيرة ، ولا مصلحة له ايضاً في أن يتصرف وكأنه العاشق الوحيد للحرب وللقتال ، فيما هو عاجز تماماً عن تحمّل تبعات الحرب وأعباء القتال .
إن حركة حماس تشكل في غزة دويلة داخل مشروع الدولة الفلسطينية كما يشكل حزب الله في لبنان دويلة داخل الدولة اللبنانية. والسلبيتان لا تشكلان إيجابية تحت اي شعار أو حتى تحت أقدس الشعارات وأنبلها : المقاومة .
رحِم الله إمرئٍ عرف حدّه فوقف عنده .
لم يكن لبنان مرحِّباً بكمب ديفيد..
ولم يكن شريكاً في وادي عربة ..
ولم يكن شاهداً في اوسلو ، وما بعدها ..
وهو لم يصفق لصفقة القرن ..
لم يرتكب اللبنانيون إثماً يسيء الى القضية الفلسطينية ولن يفعلوا .. ولكنهم دفعوا ولا يزالون يدفعون ثمن آثام الآخرين .. كل الآخرين .. كفى !!.