لا داعي لمناقشة كثيرين حول قراءتهم لما حصل في فلسطين، خصوصاً أولئك الذين لا يراهنون على تعديل مزاج العالم من أجل منح الناس حقوقهم. أولئك الذين أسقط في يدهم عندما شاهدوا بطولات المقاومة، لكنهم مثل محمود عباس الذي قال علناً إنه ضد المقاومة وضد استخدام السلاح، وإنه يؤيد المفاوضات السلمية. وهم سيقتربون من لحظة يعودون فيها الى قلة الحياء، والى شتم المقاومة باعتبارها فوّتت فرصة التحرير على طريقة التظاهرات الملونة.
لا داعي لمناقشة هؤلاء، لأنهم استهلكوا ثلاثة عقود من عمرنا في برنامج أدى الى إنهاكنا أكثر، وسمح للعدو بالتوسع والتغول في كل مكان. ولولا تجربة المقاومة الفريدة في لبنان، لما كان هناك من يعيد النظر في أصل فكرة التحرير. وحسناً أن الشعوب تلحق بحسها السليم، وتذهب حيث المكان الصحيح، حتى ولو وقفت جميع النخب على التل.
اليوم، نقف جميعاً أمام مرحلة جديدة. ها نحن نتذكر بفرح أيام التحرير المجيدة في أيار العام 2000 في لبنان، ونتذكر بفرح أكبر تحرّر غزة العام 2005، ونشعر بالزهو ونحن نستعيد صمود المقاومة في لبنان العام 2006، وصمود مقاومة فلسطين في الأعوام 2008 و2012 و2014، وصولاً إلى الملحمة الأخيرة.
مرة جديدة، سيعي العدو حجم انتصارنا أكثر من شعوبنا ونخبها المهترئة حدّ الملل. ومرة جديدة، ستكون وجهتنا مراقبة العدو في فلسطين وفي المنطقة وفي العالم، وكيف سيكون فعله وجهده في ضوء ما حصل.
في العام 2006، لم يكن العدو وحده من فوجئ ببطولات المقاومة في لبنان. بل نحن أهلها وجمهورها، وحتى الداعمون لها من قوى وحكومات، هم أيضاً فوجئوا بالمعجزات تتحقق. ومن يُجِد القراءة، يدرك أن المقاومة في لبنان تحولت إلى شيء مختلف جذرياً عما كانت عليه قبل تلك الحرب. وكان التغيير الأهم، في عقل العدو نفسه، الذي تصرف أمام استحقاق كبير اسمه حزب الله، اسمه المقاومة المحلية التي تحولت قوة إقليمية في غضون أقل من عقد، وصار بمقدورها ردعه عن غالبية ما كان يقوم به.
اليوم، نحن أمام شيء شبيه. العدو خرج من الحرب الأخيرة بمفاجأة لم تكن أبداً في حساباته. صار اليوم أمام مقاومة مختلفة عن تلك التي يعرفها. وهو إذ يتصرف مع حركة حماس بخصوصية، فهذا لا يعني أنه سيترك بقية الفصائل تغيب عن ناظريه. لكنه سيكون أمام مهمة مركزية: تحطيم حماس!
كان العدو يقول الكثير عن مجريات الصراع مع غزة. في السنتين الأخيرتين، تصرف على أساس أن المقاومة هناك هدفها واحد، يقتصر على تحصيل بعض الدعم للقطاع وأهله. وهو لم يكن يتوقع أن برنامج تطوير القدرات العسكرية سيلامس حدود ما يسميه دائماً «الخط الكاسر للتوازن».
تواجه حماس تحدّي الثبات في محور المقاومة ويواجه المحور تحدّي تعزيز حماس والمقاومة في فلسطين بكل شيء، بما في ذلك الاستعداد للحرب
وعندما اندلعت المعركة، لم يكن العدو يعتقد أن بنك أهدافه سيكون خالياً من النقاط الأساسية. وما واجهته القبة الحديدية، لا يتعلق بقدرتها على ملاحقة جميع الصواريخ، بل في كون البناء الصاروخي للمقاومة في فلسطين قام على أساس عمل هذه القبة، ولذلك، سنكون أمام أحجية دائمة حول حقيقة ما قامت به هذه القبة. كم أطلقت من الصواريخ، وكم أسقطت من الصواريخ، وكم تحتاج الى تطوير لمواجهة أنواع أخرى من الصواريخ، وهل من إمكانية لتحويل القبة الى «سلاح فردي» يُزرع أمام كل مبنى ومركز وبيت حتى يوفر مظلة الأمان المستحيلة؟
كل نشاط العدو اللاحق سيتركز على الآتي:
– سيرفع العدو شعاراً يقول إن ما حققه حزب الله في لبنان، بعد العام 2006، يجب ألا يكون متاحاً أمام حماس وبقية فصائل المقاومة في غزة. يعني أنه سيكون أمام مواجهة حقيقية مع المصريين حول جدية ونوعية الإجراءات القائمة على الحدود البرية بما خص وصول حاجات عسكرية وتقنية للمقاومة من خارج القطاع. كما سيعمل العدو على تعزيز موازنته الاستخبارية في القطاع وحوله، وسيفعّل خطة الضرب الأمني: اغتيالات لقادة وكوادر وناشطين، والقيام بعمليات أمنية أو حتى عسكرية هجومية ضد كل ما يفترض أنه يعزز من قدرات المقاومة.
– سيرفع العدو من صوته مع العالم القريب والبعيد، لأجل إخضاع القطاع لحصار من نوع مختلف، ولربط أيّ مساعدة له ببرنامج عمل لا يتيح مشاركة المقاومة في إدارة شؤون القطاع. وسيسعى العدو مع الأميركيين والمصريين والإماراتيين والسعوديين الى محاولة وضع شروط تفرض وجود رقابة على الأرض لكل عمليات الإعمار. يريد العدو، كما هذه العواصم، أن يكونوا موجودين في قلب القطاع، وأن يعززوا حضورهم المباشر باسم الدعم والمساعدة والإعمار، لكن هدفهم الفعلي سيكون تحقيق اختراقات تهدف فقط الى إضعاف المقاومة.
– سنكون أمام حملة تهويل قائمة على الترغيب والترهيب في ما خص موقع حماس السياسي. لقد التقطت إسرائيل، كما حلفاؤها العرب والعالم، أن موقع حماس في قلب محور المقاومة بقيادة إيران أخذ بُعداً مختلفاً منذ سنوات، لكنه يتجه ليأخذ شكلاً مختلفاً بعد الحرب الأخيرة. وما سيحصل من تطورات على صعيد علاقات إيران وسوريا وحزب الله والفصائل العراقية واليمن مع المقاومة في فلسطين، سيجعل العدو ساعياً بكل قوة، مع كل حلفائه العرب والغربيين، إلى تطويق حماس، من خلال تهديدها بعزلة جديدة وأكبر إن اقتربت أكثر من محور المقاومة، مقابل إغراءات على طريقة ما أعلنته ألمانيا من استعداد لمحاورتها إن هي ابتعدت عن محور المقاومة. وإذا كان هذا التحدي يقوم أساسا بوجه حماس، فهو يقوم أيضاً في وجه محور المقاومة نفسه، الذي يُفترض به اللجوء الى إجراءات متنوعة تهدف الى تحصين المقاومة ودعمها ودعم مناطقها وجمهورها بكل ما أمكن لأجل حمايتها وتثبيت موقعها.
– سيعمد العدو الى برنامج عمل هدفه التفلت التدريجي من «ضوابط» اتفاق وقف إطلاق النار. صحيح أن العدو لم يوقّع على ورقة تقول بوقف اعتداءاته على المقدسيين ورموزهم، إلا أن الجميع يعرف أن وقف إطلاق النار لم يكن ليحصل لولا التزام العدو بهذا الامر. وعملية التفلت ستتخذ أشكالاً مختلفة، ورهان العدو هنا، ليس على قدرته على التنصل من الاتفاق، بل على أن المقاومة لن تكون قادرة على إعادة فتح الجبهة من جديد. وهذا هو مركز المساعي المصرية والأميركية اليوم. وهو مركز العمل الجاري مع السلطة الفلسطينية التي يطالبها العدو بمضاعفة الجهود ليس لمنع خروج أبناء الضفة الغربية في تظاهرات فحسب، بل أيضاً العمل على وأد أي حركة مقاومة مدنية أو عسكرية في كل مناطق انتشارها.
قد تكون المقاومة في فلسطين، وخصوصاً حركة حماس، أمام تحديات أشد وأقسى من تحدي الحرب نفسها. لكن الواقع يقول إن فرصة المواجهة ممكنة وكبيرة جداً. وكما أظهرت مجريات الحرب – المعلن منها وتلك غير المعلنة – أن المقاومة لا تزال قادرة على خوض نزال جديد، فإنها معنية بأمرين رئيسيين:
الاول، حسم الالتصاق الكامل بمحور المقاومة، والعمل على تعزيز قدراتها على مختلف الصعد، وبناء المزيد من القدرات، وخلق آليات تنسيق تتيح تثبيت معادلة القوة في مواجهة الصلف الاسرائيلي.
الثاني، الذهاب نحو إطار تشاركي على الصعيد الفلسطيني، من دون الغرق في المحاولات اليائسة لإعادة إنعاش منظمة التحرير. وفي هذا المجال، تقع على عاتق المقاومة وحماس، مسؤولية البحث عن الإطار الأكثر مرونة لأجل قيادة معركة في بقية المناطق الفلسطينية بغية تثبيت معادلة الربط بين غزة والقدس. فالمعركة تتطلب حضوراً شعبياً في الاراضي المحتلة كما تتطلب سيلاً لا يتوقف من الصواريخ على مراكز العدو الحيوية…
لم تكن فلسطين وحدها، وهي لن تكون كذلك. ومثلما استفاق العدو على مقاومة من نوع جديد، فإن محور المقاومة استفاق أيضاً على مقاومة من نوع جديد. وامام المحور مهمة مركزية في تعزيز هذه المقاومة وحمايتها، والشروع في خطة حفظها ومنع سقوطها، ولو تطلب ذلك الاستعداد لمواجهة شاملة.