هي المرة الأولى التي تخسر فيها الدولة العبرية الحرب سياسياً وعسكرياً، رغم تفوقها التدميري جواً في الغارات المكثفة على قطاع غزة، وعدم توازن القوة النارية براً مع الجانب الفلسطيني.
لقد اعتادت الحكومات الإسرائيلية على أن تحصد نتائج الحروب السابقة في الحصول على تنازلات، أو هدنات طويلة الأمد، تفرض مع مرور الزمن وقائع جديدة على الأرض، كما حصل في ضم الجولان ومناطق المستوطنات في الضفة، فضلاً عن استمالة الرأي العام الخارجي إلى جانبها، بحجة التهديدات والاعتداءات التي تتعرض لها من الجانب العربي.
ما حصل في غزة قلب المعادلة رأساً على عقب، وكشف حجم الإرباك الذي تخبّط به الجانب الإسرائيلي بعد «مفاجآت» الهجمات الصاروخية على المدن الإسرائيلية الكبرى، بما فيها تل أبيب، من جهة، وانفضاح حالة الهستيريا التي سيطرت على القيادة العسكرية، من خلال الغارات الجوية الوحشية على المباني والأبراج المدنية في غزة، والتي وصلت إلى إشراك ١٦٠ طائرة معاً في قصف المدينة المكتظة بالمدنيين لمدة ٤٠ دقيقة متواصلة، أسقطت عشرات الأبراج السكنية، ودمرت مئات المنازل في الأحياء المدنية فوق رؤوس ساكنيها، حيث اعترف أحد الطيارين الإسرائيليين في تصريح علني «أننا قصفنا غزة بكثافة بسبب الإحباط من عدم قدرتنا على إيقاف إطلاق الصواريخ علينا».
لقد ربحت غزة المعركة قبل أن يتم وقف إطلاق النار وتنجلي غبار المواجهة القاسية، والتي ذاق فيها سكان المدن الإسرائيلية مرارة الحروب هلعاً وخوفاً من الصواريخ التي كانت تزمجر فوق رؤوسهم زارعة الرعب في مناطق كانت لا تسمع صدى المعارك التي كانت تدور غالباً بعيداً عنهم في الأراضي العربية، مما أدّى إلى فقدان ثقة الإسرائيلي بمنظومته العسكرية والأمنية، التي سقطت هيبتها تحت ضغط الصواريخ الفلسطينية.
وجاء قرار الرقابة العسكرية بمنع نشر صور آثار الإصابات التي تحققها الصواريخ المنهمرة، ليُكمل مشهدية الإرباك السياسي والإعلامي الذي رافق الهستيريا العسكرية، حيث كان الإعلام العالمي يتداول أفلام وصور القصف الوحشي على المدنيين في غزة، وجثث النساء والأطفال التي يتم سحبها من تحت أنقاض المباني السكنية المدمرة، إلى جانب تغطية حركة الحشود العسكرية الإسرائيلية بجوار الحدود مع القطاع والترويج لهجوم بري مزعوم وشيك، تبين لاحقاً أنه كان خدعة واهية، ليس للإعلاميين وحسب، بل وحتى للإسرائيليين أنفسهم، حيث تم اتهام نتنياهو بتلفيق هذه الدعاية الكاذبة لرفع معنويات جنوده وجمهوره، وللتغطية على الفشل الذريع في الحد من الهجمات الصاروخية المنطلقة من غزة.
في السياسة، كانت الخسارة الإسرائيلية أفدح بكثير من الخسائر في المواجهة العسكرية، حيث أعادت معركة غزة القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي، وطرحت على الطاولة الأميركية بالذات مشروع حل الدولتين من جديد، بعدما كادت صفقة القرن أن تقضي على مشروع الدويلة الفلسطينية من أساسه.
عودة الرعاية الأميركية لمشروع «الدولتين»، والكلام عن ضرورة التوصل إلى حلول دائمة للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومجيء وزير الخارجية الأميركية إلى الأراضي الفلسطينية قبل أن تبرد مدافع المعركة، يوحي وكأن ثمة جدية في إعادة الطرفين إلى المفاوضات وحسم النقاط الخلافية التي كانت تحول دون التوصل إلى اتفاق حول «حل الدولتين»، بما يعني وضع حد لسياسة التعنت والعرقلة التي مارسها نتنياهو منذ وصوله إلى السلطة قبل عشر سنوات ونيف، مُستغلاً الانقسامات الفلسطينية، وانزلاق المنطقة إلى اضطرابات وحروب «الربيع العربي»، ومنفذاً أخطر المخططات الاستيطانية في القدس والضفة.
وعودة الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني تجلى أيضاً في الحماس الذي ظهر في عواصم القرار الكبرى، لا سيما واشنطن بالذات، في تقديم المساعدات والمساهمة في إعادة إعمار ما دمره العدوان على غزة، والإسراع في توفير الخدمات الأساسية للمدنيين الصامدين فوق أنقاض منازلهم وأحيائهم. ومبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي بتقديم نصف مليار دولار لإعادة إعمار غزة، فتحت أبواب المساعدات السخية على مصراعيها، ورفعت سقوف الدعم عالياً.
عربياً، لا نُبالغ إذا قلنا أن معركة غزة بدّدت الكثير من أجواء اليأس والخيبة التي سادت الفضاء العربي في المدة الأخيرة، خاصة بعد قرارات ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة المقدسة كعاصمة للدولة العبرية، فضلاً عن الضغوط التي رافقت العمل على تنفيذ «صفقة القرن»، والتي أحبطها الموقف السعودي الحاسم بتمسكه بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتنفيذ القرارات الدولية ذات الشأن بالقضية الفلسطينية، ورفضه الانخراط في سياسة التطبيع.
وجاء الدور المصري البارز في التوصل إلى وقف إطلاق النار، بعد أيام من المفاوضات الشاقة مع الجانب الإسرائيلي الذي لم يُفلح في فرض شروطه على المفاوض المصري، ليؤكد مرة أخرى أهمية الدور العربي في دعم نضال الشعب الفلسطيني، وقطع الطريق على محاولات الاستغلال غير العربية لقضية العرب الأولى، وتوظيفها في مشاريع الهيمنة والتلاعب في استقرار بعض الدول العربية.
لقد أثبت التنسيق الناشط بين القاهرة والرياض في معركة غزة ومناصرة الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه، مدى حاجة النظام العربي إلى العودة إلى سياسة التضامن والتعاون بين عواصم القرار العربي، على الأقل، لاستعادة التوازن المنشود للأمن القومي والذي من شأنه أن يحمي أمن واستقرار الدول العربية التي تتعرض لمحاولات اختراق من الجانبين الإيراني والتركي، بذريعة ملء الفراغ في الساحات العربية.
وأخيراً، لا بد من القول بأن الكرة اليوم أصبحت في الملعب الفلسطيني، وعلى قيادات الفصائل والسلطة أن تعمل سريعاً على توحيد الصفوف والمواقف، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون مستعدة لخوض المرحلة الفاصلة من المفاوضات المصيرية مع العدو الإسرائيلي، عندما تدق الساعة الدولية للجلوس إلى طاولة التفاوض بعدما ربحت فلسطين «حل الدولتين».