في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917 تلقى ليونيل والتر دي روتشيلد الرسالة التالية من وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور: «يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته، أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف، إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».
بعد 103 أعوام من الصراع والحروب والدماء والقرارات الدولية والاتفاقات الزائفة، التي لم تساوِ الحبر الذي كتبت به، وآخرها مثلاً اتفاق أوسلو عام 1993، وقف الرئيس دونالد ترمب إلى جانب بنيامين نتنياهو يوم الثلاثاء الماضي في 28 يناير (كانون الثاني)، ليستكمل تطبيق وعد بلفور، تماماً كما قال الرئيس محمود عباس، من خلال ما سمّاه «صفقة القرن»، التي لم تكن إلا ختماً وتوقيعاً أميركيين على ورقة التابو البريطانية، التي حاولت شطب فلسطين من الخريطة وإقامة إسرائيل مكانها.
لكنها بداية حقبة جديدة وطويلة من الصراع في القضية الأعرق في التاريخ الحديث، قضية فلسطين التي جاءت صفقة ترمب لتجعل منها مجرد غيتو فلسطيني تحت عنوان الدولة الفلسطينية، التي يريدون حذفها ليس من الجغرافيا فحسب، بل من التاريخ أيضاً، أو مجرد «معتقل أنصار» الذي أقامه الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان عام 1982!
في غياب أي مسؤول فلسطيني تناوب ترمب ونتنياهو على الحديث عن تلك الصفقة وسط تصفيق حشد صهيوني، وبعد أكثر من عامين على الحديث عن انخراط إدارة ترمب فيما قيل دائماً إنه سيكون «صفقة القرن»، التي ستنهي نزاعاً عمره قرن من الزمن، وتضع حلاً ناجزاً للصراع في الشرق الأوسط، جاءت صفعة العصر، التي ليست توجّه إلى الشعب الفلسطيني وقضيته فحسب، بل إلى تاريخ من المساعي الدبلوماسية الأميركية والدولية لإقامة الدولة الفلسطينية على قاعدة قرارات الشرعية الدولية الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
على 3 مفترقات لافتة جاء الإعلان عن الصفقة، فترمب الذي بدأ ينخرط في دورة الانتخابات الرئاسية لتجديد ولايته، والذي عانى من مشكلات سياسية داخلية معقدة، يريد طبعاً استثمار هذا الأمر، للحصول على دعم اللوبيات الصهيونية، التي تملك دوراً مؤثراً في الانتخابات، ونتنياهو الذي فشل في تشكيل حكومة، ما يفرض الذهاب إلى انتخابات ثالثة، والذي يواجه تهماً بالفساد أمام المحاكم، يستطيع عبر صفقة تجعل من الدولة الفلسطينية مجرد غيتو محاصر من أبو ديس إلى غزة، أن يطرح نفسه قائداً مميزاً في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي.
المفترق الثالث هو الوضع الكارثي المتمثّل في الانهيار والتفكك العربي، وخصوصاً في منظومة الدول التي رفعت شعار جبهة الصمود والتصدي، ويأتي هذا معطوفاً على انقسام فلسطيني مؤسف، من المعروف أن التدخلات الإيرانية هي التي هندسته، وهي التي تقرع طبول فلسطين وتحرير القدس، لكنها تمضي في العمل لإضعاف الموقف العربي، وقد أسهمت تدخلاتها المزعزعة للاستقرار في هذا.
كان واضحاً منذ الإعلان عن أن الإدارة الأميركية تُعدّ لـ«صفقة القرن» أنها محاولة لإسقاط فلسطين من الجغرافيا والتاريخ، ففي السيكولوجيا الصهيونية أن مجرد الحديث عن دولة فلسطينية، يعني تشكيكاً ذاتياً عند اليهودي بشرعية المزاعم حول تاريخية إسرائيل وأرض الميعاد، ولهذا كان المطبخ الذي تولى إعداد «صفقة القرن» في يد 3 من الطبّاخين الصهاينة.
من هو جاريد كوشنر؟ إنه الصهيوني المتشدد، الذي كلّفه ترمب الإشراف على إعداد الصفقة.
ومن هو جيسون غرينبلات؟ إنه الصهيوني القحّ، ومبعوث ترمب لما سُمي العمل لتسوية القضية الفلسطينية، والذي يرفض الرئيس الفلسطيني مقابلته منذ دعاه إلى وقف مساعدة أبناء الضحايا الفلسطينيين، وأوقف المساعدات الأميركية لمنظمة التحرير بعد رفض طلبه، لكنه كان ناشطاً في مطبخ الصفقة.
ومن هو ديفيد فريدمان؟ إنه المستوطن الصهيوني الذي عيّن سفيراً أميركياً لدى إسرائيل، والذي سينشط في المطبخ المذكور، وهو واضع بنود الصفقة التي يفاخر ترمب بأنها جاءت مفصّلة في 80 صفحة، لكنها عملياً تبدو كأنها مجموعة من المسامير لدقّها في تابوت القضية الفلسطينية، فلا يكفي القول مثلاً إننا سنكون أمام غيتو فلسطيني، بل عندما تدعو الصفقة إلى أمرين متلازمين ستكون فعلاً محاولة لمحو فلسطين من الجغرافيا والتاريخ.
عندما تدعو الصفقة إلى إسقاط حق العودة، والدعوة إلى توطين الفلسطينيين حيث هم، أو انتقالهم إلى دول أخرى، أو العودة إلى دولة الغيتو في أبو ديس، ثم عندما يأتي الحديث فوراً عن الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية دستورياً وقانونياً، بما يعني فتح الباب على ترانسفير جديد يساعد على دفع فلسطينيّي 1948 إلى الخارج، فكيف يعود الذين هم أصلاً في اللجوء؟
نحن أمام ما هو أقل من غيتو، أو معتقل فلسطيني بعنوان دولة، فإسرائيل ستكون لها السيطرة الكاملة على منطقة أغوار الأردن، وسيعطيها الحق في إبقاء المواقع الاستراتيجية الحسّاسة تحت سيطرتها، وسيكون لها حق السيطرة المطلقة على المجالين الجوي والكهرومغناطيسي حتى المائي، وتدعو الخطة إلى نزع سلاح الدولة الفلسطينية، وخصوصاً في غزة، وتعطي إسرائيل حق حرية الحركة في مناطق غرب الأردن بحجة محاربة الإرهاب، وحق السيطرة الأمنية الكاملة على كل المناطق المحيطة بالغيتو المقترح وعلى المعابر، وهو فعلاً ما يجعل منها مجرد معتقل فلسطيني كبير!
الغيتو الفلسطيني قد لا يكون قابلاً للبقاء، وخصوصاً إذا تذكرنا أن اتفاق أوسلو عام 1993 كان قد نصّ على إقامة الدولة الفلسطينية بعد 5 سنوات، وهو ما لم يحصل طبعاً، وصفقة القرن التي تتحدث عن قيام «الدولة الفلسطينية» بعد 4 سنوات، لن تكون نتيجتها العملية أفضل من وعد الدولة في أوسلو!
كان من الطبيعي أن يرد الرئيس الفلسطيني فوراً بالقول هذه الصفقة لن تمر، وستذهب إلى مزبلة التاريخ كما ذهبت مشروعات التآمر في هذه المنطقة… هذه المؤامرات والمخططات إلى فشل وزوال، ولن تُسقط حقاً أو تُنشئ التزاماً… وسنعيد هذه الصفعة صفعات.
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز اتصل بعباس مؤكداً وقوف المملكة إلى جانب الشعب الفلسطيني، ودعمها لخياراته وما يحقق آماله وطموحه، كما أصدرت الخارجية السعودية بياناً يدعو إلى حلٍ عادل وشامل للقضية الفلسطينية، ومن الواضح أن اجتماع الجامعة العربية اليوم (السبت) على المستوى الوزاري سيكون له موقف داعم للحق الفلسطيني الذي حاولت صفقة القرن طمسه، وخصوصاً مع تأكيد الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط أن الخطة الأميركية تمثل إهداراً كبيراً لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وأن المعيار الأساس في الحكم على أي خطة هو مدى انسجامها مع القانون الدولي ومقررات الشرعية الدولية.
حتى داخل الولايات المتحدة وفي الأوساط المنحازة أصلاً لإسرائيل، صدرت تحذيرات من أنها صفقة لن تمر، كما قال مثلاً دانيال شابيرو، الذي شكك في خطة ترمب وتوقيت إعلانها، أما مارتن إنديك اليهودي ومساعد وزير الخارجية السابق ومبعوث عملية السلام فلم يتردد في القول إن تصميم ترمب على إعلان «صفقة القرن» قبل الانتخابات الإسرائيلية، ومن طرف واحد، دليل على أنها ليست خطة للسلام، بل هي لعبة هزلية من بدايتها إلى نهايتها!