تكاد الأحداث التي تشهدها الأراضي المحتلة منذ الخريف الماضي ان تمر من دون أن تترك أثراً في وسائل الإعلام وعند الفئات التي كانت تبدي اهتماماً في السابق بكل تفاصيل الحدث الفلسطيني.
تنحصر السجالات المتعلقة بما تسميه الصحافة «موجة الهجمات» الفلسطينية ببعض المقالات والبرامج التلفزيونية الاسرائيلية فيما يبدو مسؤولو السلطة الوطنية في واد آخر. يضاف الى ذلك غياب شبه كامل للتغطية الاعلامية العربية والغربية لعمليات الطعن والدهس بالسيارات التي يقوم بها ناشطون فلسطينيون. قتل جندي اسرائيلي بدم بارد لشاب فلسطيني في الخليل قبل أيام تحوّل إلى جدال بين الجيش وهيئات حقوق الإنسان الإسرائيلية في شأن «القيم» التي يتبناها جيش الاحتلال. ويطغى الصمت على سقوط اكثر من 190 فلسطينياً سقطوا بالرصاص الإسرائيلي منذ تشرين الأول (اكتوبر) الماضي وفق ارقام وكالات الأنباء العالمية، تقول السلطات الإسرائيلية ان اكثر من نصفهم قضوا نحبهم اثناء محاولاتهم قتل اسرائيليين.
يمكن اقتراح عدد من التفسيرات لتراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، منها الأثر التدميري الذي ألحقه بها الصراع الداخلي بين حركتي «فتح» و»حماس» ما اعطى انطباعاً بغياب المشروع الوطني الفلسطيني وحتى الاتفاق على الحد الأدنى من الأهداف ومن وسائل تحقيقها. الفشل المتكرر لمساعي رأب الصدع منذ اكثر من عشر سنوات وسم الانقسام الفلسطيني بطابع مزمن غير قابل للعلاج ونقل هذا الطابع الى مجمل القضية.
لكن السبب الأهم لهذا الإهمال نشأ في مكان آخر. ذلك أن القضية الفلسطينية التي قُدمت على مدى عقود عدة باعتبارها قضية شعب يواجه احتلالاً استيطانياً اجنبياً، اصطدم متابعوها العرب فجأة بحقيقة ان شعوبهم ذاتها باتت في حاجة الى اعادة تعريف علاقاتها الداخلية بين فئاتها ومكوناتها وطوائفها وأقلياتها. ولعله ليس من السهل ان تحتل القضية الفلسطينية حيزاً من الاهتمام يليق بعدالتها في الوقت الذي تعاني الشعوب العربية القريبة من فلسطين من صراعات تحشد فيها الهويات التي طالما قُمعت باعتبارها علامات على آثار التخريب الاستعماري.
وبغض النظر عن اصرار الممانعة على استنزاف القضية الفلسطينية وعصرها حتى النهاية، فإن توظيف النكبة الفلسطينية في آليات الإمساك بالسلطة لم يعد قابلاً للاستمرار على ما اكتشف ملايين من السوريين والعراقيين وغيرهم، ممن دفعتهم سلطاتهم الى العيش في ظل قمع لا يطاق بذريعة الإعداد للمعركة مع العدو الصهيوني. حالة مشابهة شهدها اللبنانيون الذين أُلقي بهم مرات في أتون حروب داخلية وخارجية بحجة المواجهة مع الاحتلال.
والثورات العربية التي وُضعت في تعارض مع القضية الفلسطينية، لم تكن في واقع الأمر سوى تسليط للضوء على تفاقم التناقضات الداخلية وخروجها عن أطر السيطرة التقليدية المستخدمة منذ قيام الدول العربية المستقلة، ومن بين الآليات هذه الخطاب المعادي لإسرائيل والمساند للحقوق الفلسطينية في حين أن مأساة مخيم اليرموك قرب دمشق تشهد على الموقف الحقيقي للأنظمة الممانعة، أكثر من غيرها، من القضية والشعب الفلسطينيين.
وأمام الانقسام الرسمي الفلسطيني الذي يزداد رسوخاً والدول والمجتمعات العربية الآيلة الى الانهيار والتفكك، يقف الفلسطينيون المحاصرون بالمستوطنات والتمييز والإهمال وحدهم. لقد حصل الفلسطينيون على ما كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يصر عليه: القرار الوطني المستقل البعيد عن استغلال الأنظمة. لكنهم حصلوا عليه على غير ما كانوا يتصورون.