هدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي عشرات المنازل في ضاحية صور باهر في القدس الشرقية يكشف مرة جديدة المأزق الذي تعاني منه القضية الفلسطينية ووقوعها بين فكي خطاب المتاجرة بها وبين العجز الكامل عن فرض أي تعديل على مسارها المأساوي.
القول إن ردود الفعل على تدمير المنازل وتشريد أهلها، لم تتجاوز الألفاظ يحيل سريعاً إلى قراءة في أحوال أصحاب القضية. فإذا كان الانقسام والعداء الصريح هو السمة الأبرز في العلاقات الفلسطينية الداخلية، وجد كل من يريد التدخل في النضال الفلسطيني ومن يريد التهرب والتملص منه، مبرراً كافياً لفعله. السلطة الوطنية عقدت اجتماعاً طارئاً وهددت بإلغاء كل اتفاقياتها مع إسرائيل في الوقت الذي كان مسؤولو حركة «حماس»، القطب الثاني في الانقسام الفلسطيني المزمن، يؤكدون للمرشد الإيراني علي خامنئي في طهران أن حركتهم ستكون في خط الدفاع الأول عن إيران. موقفان يتشاركان في تغطية العجز الكامل عن الفعل المادي وعن رد العدوان، بكلام من دون صدى.
وتبدو محاولات المفاضلة بين السلطة الوطنية وبين «حماس» عديمة الأهمية. ذلك أنهما تؤديان وظيفتيهما في تجريد القضية الفلسطينية من كل أدوات الاعتراض على المسار الذي فرضته إسرائيل بموافقة ومباركة من الولايات المتحدة، بسحق المجتمع والاقتصاد والعمران الفلسطيني، أي بتدمير «البنية التحتية» للقضية الفلسطينية وتحويلها إلى مسألة اقتصادية لمجموعة من البشر المعدمين مادياً والذين لا هوية ولا تاريخ ولا حقوق لهم.
«حماس» الحاكمة سعيدة إمارة غزة، تصر على مصطلحات المقاومة ولا تتردد في استخدام عبارات من نوع «توازن الرعب» مع الاحتلال الإسرائيلي الذي «تردعه» صواريخ الحركة عن الاعتداء على القطاع، من دون أن تقيم وزناً لانسداد أفق أي حل سياسي سواء على مستوى الصراع مع إسرائيل أو المصالحة مع الفرقاء الفلسطينيين الآخرين. فكل شيء بخير ما دامت «المقاومة» بخير. مليونا فلسطيني يعانون الأمرين تحت سلطة «حماس» يؤدون واجبهم في النضال من أجل التحرير ويدفعون، بمعاناتهم، ثمن الكرامة والعزة اللتين جلبتهما المقاومة للقطاع، بحسب هذا المنطق المشوه.
ولا يقل حال السلطة في رام الله سوءاً. فبعدما خذلها معظم الأنظمة العربية ونبذتها الولايات المتحدة التي أفرطت السلطة في الرهان عليها، وجدت نفسها معزولة عن كل حليف (وإن لم تقطع الأمل في صداقة بشار الأسد) ومهددة بانقطاع مصادرها المالية ومفتقرة إلى القدرة على جمع الشمل الفلسطيني. ولم يعد لديها من أوراق سوى وجودها ذاته، فتهدد بالانتحار كلما ضاقت بها السبل وعزّ النصير: إلغاء السلطة وتسليم مناطقها إلى إسرائيل أو إنهاء العمل بالاتفاقيات مع سلطات الاحتلال التي يبدو أنها لا تبالي كثيراً بما يقرره سياسيو رام الله. بل لعلها تتمنى أن يستمر الوضع على هذا المنوال إلى أن تقضم آخر قطعة أرض في أبعد قرية فلسطينية.
تراجع إمكان تغيير الواقع يفتح الطريق أمام الخيال وأمام استغلال القضية الفلسطينية. فهذا يبشر بقرب صلاته في المسجد الأقصى بعد أن يكون قد دمر المدن الإسرائيلية بصواريخه الدقيقة وذاك يهدد بمسح إسرائيل عن الخريطة في غضون دقائق. بيد أن الخطط اللازمة للوصول إلى هذه الأهداف تظل محجوبة وطي الكتمان حتى لا تتسرب إلى «العدو الغاشم» فيحبطها… لا تعدم الاستعراضات اللفظية هذه أسسها المادية، إذا صحت العبارة. فقد بات جلياً البون الشاسع بين «المقاومة» كنظرية لإدامة نظام حكم في إيران وحمايته بواسطة قوى في لبنان وفي غزة وفي غيرهما، وبين القضية الفلسطينية التي يمثلها شعب وبشر أحياء يُطردون من بيوتهم ويذلون في بلدان الشتات، من دون أن تتدخل المقاومة المذكورة بصواريخها الكثيرة والدقيقة لمنع بناء مستوطنة جديدة أو لوقف التنكيل بالفلسطينيين اللاجئين.
يبرز هنا السؤال عن فاعلية هذه المقاومة وسلاحها. فإذا كانت للدفاع عن النظام الإيراني أو حتى عن لبنان، فهذا شيء. وإذا كان الهدف منها هو دعم القوى الفلسطينية الساعية إلى استعادة الحقوق الوطنية والمشروعة المستباحة منذ أكثر من سبعين عاماً، فهذا شيء آخر تماماً. بهذا المعنى، يمكن الحديث عن الفاعلية في السياق الأول، كدرع إيرانية في مواجهة إسرائيل. أما في السياق الثاني، فالإنجازات التي حققتها هذه المقاومة على الأرض المحتلة ضئيلة للغاية. هذا إذا نحينا جانباً قصص الأنفاق في غزة والصواريخ والسلاح الذي يفقد قيمته عندما يتحول إلى أداة للسيطرة الفئوية الداخلية. بل إن هناك من يلومها على ترسيخ الانقسام الفلسطيني وتعميقه من خلال تأييدها لفصيل على حساب آخر.
في هذه الأثناء، تستمر عملية تفكيك القضية الفلسطينية على أيدي الأعداء والأبناء.