Site icon IMLebanon

فلسطين.. «يا جرحي المكابر»

 

مئة عام على وعد بلفور، 1917. الذكرى ليست حكاية حداء وعودة فحسب، ليست وجعاً ينخر في عظام المسنين وفي قلوبهم، ليست أغنية على شفاه طفل ينشد: «موطني.. موطني». ليست صورة معلقة على جدار إسمنتي تتآكله الرطوبة، ولا مفتاحاً صدأ أو دمعة أو وشاحاً أو أي من أغراض حملوها معهم حين تشردوا في أصقاع الأرض.

الذكرى رسالة «شتات» لنحو 11 مليون فلسطيني موزعين في الشتات وفي الداخل، وقد بدأت الحكاية وفي مستهلها: «عزيزي اللورد»، وفي خباياها «وطن قومي لليهود»، وفي دفائنها محاولة إبادة شعب بعد شهر واحد على تاريخ تسطيرها قبل قرن، في الثاني من تشرين الثاني، ومن حينها لا زالت الأمهات تزف الشهداء الى حيث المأوى برسم الموقت، وإلى حيث الأراضي «بطرت» من الدماء، وإلى حيث الحشود تتلاقى على وعد بالعودة وتتباكى على وعد بلفور. وما بين الوعدين تاريخ يفيض حكايات عن الاضطهاد والتشرد والاحتلال والعنصرية والتمييز العرقي. تاريخ يبدّل في حقيقة أولئك الذين شلعوا الأبواب وطمروا ملامح الأحياء والمدن والأسماء العربية والديموغرافية والأرقام: من يهود لا يزيد تعدادهم عن خمسة في المئة من مجموع السكان، إلى العكس، ومن يسأل في الضمير العالمي المكتوم القيد؟ من يفعل بغير المواساة؟ من يعيد إلى الأجيال رونق الأيام المسروقة وفرحة الأغنيات التي طالما عجّت بها المهرجانات، من «راجعون»، إلى القدس العتيقة، إلى أجراس العودة، إلى زهرة المدائن، إلى «خذوني إلى بيسان»، إلى «يا ربوع بلادي»، إلى «يافا»، إلى «سنرجع يوماً إلى حيّنا»، إلى «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان».. وإلى أن «كان في أرض وكان في إيدين عمبتعمر تحت الشمس وتحت الريح..».

وعد بلفور، أو «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، ذكرى موجعة لدى أولئك الذين سمعوا من آبائهم حكايات خضراء عن التين والزيتون، عن كروم وبساتين، عن غلة الصيادين، عن المنازل المعقودة بحجارتها، عن صندوق العروس المرصع بالنحاس، عن جرة فخار كان الفلاحون يخزنون الزيت بداخلها، عن حجر الرحى لجرش العدس والقمح والذرة، عن مصابيح كانت تُستخدم لإنارة المنازل والطرق في القرى الفلسطينية، عن تحف قديمة، عن أبطال ومدن وموانئ.. والذكرى موجعة أضعافاً حين تغدو مناسبة لاستغلال المناسبة، حين لا تعود فلسطين هي المحور والجرح النازف، وإنما أشبه بمستوصف يجري فيه فحص دماء أوطان المنطقة بين عروبية أو خارجة عن العروبة. أما فلسطين العروبة فإنها في عيني مسنّ يحمل علم بلده، وينشد: «آه يا جرحي المكابر، وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافراً. إنني العاشق، والأرض حبيبة».