كثيراً ما نسمع عبارة «ما بعد هذا التاريخ لن يكون كما قبله!»، وآخر مرة سمعناها كانت بعد تفجير مرفأ بيروت، وحتى الآن لم يجرؤ أي قاضٍ على الإعلان عن الحقيقة الساطعة كالشمس، لأن «حزب الله» يمنع ذلك. وإذا بما بعد أغسطس (آب)، أسوأ بكثير مما كان قبله، والأخطر على الطريق.
الآن إذا تابعنا القنوات التلفزيونية لما يُسمى محور الممانعة، فإن حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» لم تبقيا حجراً على حجر في كل إسرائيل، أما عن القتلى الفلسطينيين فقد قال «أحد المحللين» المتفائلين إن هذا العدد «هو لكي نمنع سقوط ضحايا آخرين، المهم أننا نقترب من القدس»! كان يتكلم كأن إسرائيل منظمة «كاريتاس».
انخرطت القوات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة في أعنف تبادل لإطلاق النار منذ حرب غزة 2014، وتعمل كل من قطر ومصر (الحذرة من جماعة «الإخوان المسلمين»، لكنها دفعت «حماس» العام الماضي إلى الادّعاء بأنها غير مرتبطة بـ«الإخوان») والأمم المتحدة على التوسط في وقف إطلاق النار، لكن لا يوجد مؤشر حتى الآن على إنهاء العنف، مع احتمال حدوث تداعيات بعيدة المدى في جميع أنحاء المنطقة.
يأتي الصراع بعد أسابيع من التوترات التي تصاعدت تحسباً لقرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي تأخر الآن، في شأن ما إذا كان يمكن طرد ست عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح التاريخي في القدس الشرقية لإفساح المجال للمستوطنين الإسرائيليين. وأثارت القضية احتجاجات يومية جماهيرية، غالباً ما تحولت إلى أعمال عنف عندما فرقت الشرطة الإسرائيلية بالقوة الحشود يوم الجمعة الماضي 7 مايو (أيار)، وأُصيب أكثر من 170 فلسطينياً عندما فضّت قوات الأمن مظاهرة في مجمع المسجد الأقصى بالقدس، ثالث أقدس الأماكن في الإسلام. فقد داهمت شرطة الاحتلال المسجد مرة أخرى في ساعات الصباح الباكر من يوم الاثنين قبل الماضي، أحد الأيام الأخيرة من شهر رمضان، مما أدى إلى إصابة مئات المتظاهرين الآخرين، واستخدمت القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، بالإضافة إلى ضرب المتظاهرين الذين قاوم عدد منهم عن طريق رشق الحجارة وأشياء أخرى. وقال عدد من شهود العيان: «لقد كان هجوماً عنيفاً حقاً لم نشهد مثل هذا العنف داخل المسجد الأقصى منذ سنوات عديدة»، وردت «حماس» و«الجماعة الإسلامية المسلحة» التي تسيطر على غزة، بإطلاق صواريخ على مدن إسرائيلية.
مثل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الأوسع، فإن النزاع الذي أدى إلى تصاعد العنف في الآونة الأخيرة له جذور تاريخية عميقة. حي الشيخ جراح، مثله مثل الأحياء الأخرى في القدس الشرقية، كان محل نزاع بين الفلسطينيين واليهود منذ قرون. في عام 1956، قام الأردن، الذي كان يحكم الضفة الغربية والقدس الشرقية، ببناء منازل في الشيخ جراح لإعادة توطين 28 عائلة طردتها الميليشيات الصهيونية من منازلها خلال حرب عام 1948 التي انتهت بإقامة دولة إسرائيل. في الستينات، وافق الأردنيون على منح صكوك ملكية الأراضي الرسمية لسكان الشيخ جراح الفلسطينيين بعد فترة ثلاث سنوات، لكن الصفقة توقفت بسبب حرب الأيام الستة عام 1967، والتي شهدت احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية… منذ ذلك الحين طُرد عدد من السكان الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية وصدرت أوامر للعائلات الفلسطينية بمغادرة الشيخ جراح في الأعوام 2002 و2009 و2017. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قضت المحكمة العليا بضرورة إبعاد 87 فلسطينياً عن حي سلوان خارج المدينة القديمة. ورفعت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين دعوى قضائية ضد السكان الفلسطينيين، بحجة أنهم يعيشون على أرض يهودية. في بيان يوم الجمعة قبل الماضي، أدان مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عمليات الإجلاء المخطط لها للعائلات في الشيخ جراح، وجاء فيه: «إن نقل أجزاء من السكان المدنيين التابعين لسلطة احتلال إلى الأراضي التي تحتلها محظور بموجب القانون الإنساني الدولي وقد يرقى إلى مستوى جرائم الحرب». ويذهب إيلان بابي، المؤرخ الإسرائيلي المقيم في المملكة المتحدة والذي ألّف عدة كتب عن الصراع، إلى أبعد من ذلك قائلاً: إن الطرد المخطط له في الشيخ جراح يتناسب مع نمط «التطهير العرقي» للفلسطينيين الذي «لم يتوقف أبداً منذ عام 1948».
المجموعات اليهودية المؤيدة للمستوطنين (يطلق عليهم «مستوطنون»، لا «مواطنون») تم دعمها من حكومة تدعم مطالبها. في يناير (كانون الثاني)، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أنه سيتم بناء 800 منزل جديد للمستوطنين في الضفة الغربية المحتلة. ووقف نتنياهو يوم الأحد الماضي بحزم ضد الاحتجاج الدولي المتزايد، قائلاً إن إسرائيل «ترفض بشدة الضغط على عدم البناء في القدس».
كل هذا كان يحدث منذ ما يقرب من 50 عاماً، لكنه وصل إلى مستوى مرتفع الآن. وهذه بعض من آخر العائلات في المنطقة الذين يتوقعون ترحيلهم، وفي المحكمة العليا لا يوجد استئناف قانوني. لذلك فإن الملاذ الوحيد للسكان الفلسطينيين الآن هو الاحتجاج والمقاومة ورفع الثمن السياسي الذي يتعين على إسرائيل دفعه. قد تكون الاحتجاجات، رغم أنها كانت مكلّفة، نجحت من خلال إجبار المحكمة على تأخير عمليات الإخلاء لمدة 30 يوماً ووسط اندلاع أعمال العنف من الممكن أن يتم تعليق الإخلاء لتجنب مزيد من التصعيد. لكن لا يتفق الجميع ويرى بعض الإسرائيليين أن التأخير القضائي مجرد «خطوة تكتيكية»، وأن «جهود التطهير ستُستأنف».
يوم الأربعاء قبل الماضي، قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، إن «إسرائيل غير مستعدة لوقف إطلاق النار»، وتعهَّد بمواصلة العمليات العسكرية في غزة حتى يكون هناك «هدوء تام».
تأتي الأزمة الحالية في وقت يتعرض فيه نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لضغوط سياسية هائلة. نتنياهو يحاكم حالياً بتهمة الفساد بينما يقود حكومة تصريف أعمال. وفشلت أحزاب المعارضة في تشكيل ائتلاف يحل محله بعد الانتخابات الإسرائيلية الرابعة خلال عامين في مارس (آذار). ربما يراهن نتنياهو على أن الرد القوي على «حماس» يمكن أن يعزز معدلات التأييد له ويعزز دعمه بين الإسرائيليين اليمينيين، وأيضاً المعتدلين المهتمين بالعنف. كما يأمل أن يؤدي الصراع المطوّل إلى إحداث شرخ بين خصومه المتنوعين آيديولوجياً. في غضون ذلك، أثار عباس ضجة في أواخر أبريل (نيسان) الماضي عندما علّق خطط إجراء أول انتخابات فلسطينية منذ 15 عاماً لأن نتنياهو أراد استبعاد القدس. لكن لا يزال من الممكن أن ينعكس الوضع الحالي لمصلحته السياسية: مع استمرار سقوط القنابل على غزة، قد يبتعد الفلسطينيون عن «حماس» التي صاروا بنظرها أرقاماً. وبدلاً من ذلك، يمكن أن تؤدي النهاية السريعة لاندلاع العنف إلى تعزيز صورة «حماس» وتصوير عباس على أنه غير راغب في مواجهة العدوان الإسرائيلي. في كلتا الحالتين، يجعل القتال إمكانات حكومة الوحدة الفلسطينية بعيدة أكثر من أي وقت مضى.
والآن نصل إلى بيت القصيد، فقد دعا المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، الفلسطينيين إلى الرد على «وحشية» إسرائيل، قائلاً إن الإسرائيليين «يفهمون لغة القوة فقط». إن ما يحصل بين «حماس» وإسرائيل هو «صناعة إيرانية بامتياز» والمتخلف عقلياً مَن يعتقد أن بإمكان «حماس» الإقدام على ما تفعله من دون أوامر مباشرة من المرشد و«فيلق القدس»، وكان أول اتصال في عزّ القصف أجراه إسماعيل هنية مع محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران، يسأله عن الرضا. السؤال هو: ماذا تريد إيران؟ تريد تحسين موقعها التفاوضي في فيينا بورقة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، تضيفها إلى ورقة «حزب الله» والحوثيين و«الحشد الشعبي» وبعض المجموعات في سوريا، والأهم بالنسبة إليها جعل «حماس» الممثل الأقوى وربما الأوحد للشعب الفلسطيني، وهكذا تصبح قضية فلسطين حكماً بأيدي الإيرانيين حتى لو تدمرت غزة ورام الله بالكامل وقُتل 100 ألف فلسطيني.
ما تفعله إيران هو نسخة طبق الأصل مما فعلته في لبنان، ما أدى إلى سيطرة حزبها، «حزب الله» على لبنان.
علينا الاعتراف بأنهم يُجيدون التخطيط الذكي للوصول إلى ما يطمحون إليه، وهذا ينمّ عن دراسة عميقة لنفسية وتصرفات مَن يتعاملون معهم، وكذلك عن صبر وباع طويل. لكنّ نقطة الضعف الخطيرة لدى النظام الإيراني هي أنه يتقن التخطيط للوصول إلى الدول وتدميرها لا لبنائها. إنه يزرع الخراب والفوضى والتخبط واللااستقرار، ولعل في هذا ما يناسب إسرائيل وكل طامح للسيطرة على ثروات الشعوب.
اعتقد خامنئي أن لغته التحريضية ستُلهم وكلاء إيران في لبنان وسوريا للعمل، مما يضيف بُعداً آخر للصراع. لم يتضح بعد إلى متى سيستمر اندلاع العنف الحالي. لكن وسط عدم الاستقرار السياسي الداخلي في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، فضلاً عن مناخ عدم اليقين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فقد تطارد الأحداث الأخيرة المنطقة لعدة أشهر مقبلة. المهم ألا تكون «حماس» متواطئة لتأمين الوطن البديل للفلسطينيين. ولتتذكر أن إخلاء بيوت في الشيخ جراح أودى بكل أبراج غزة.