تشكل استراتيجية انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية مقاربة جديدة نوعياً للعملية التفاوضية الثنائية مع إسرائيل، وللرعاية الأميركية لـ «عملية السلام». هذه الاستراتيجية لا تنسف السعي لتحقيق «حل الدولتين» الذي هو عنوان الإجماع الدولي على حل سلمي للنزاع. إنها تضع الجميع في امتحان للاختيار بين جدية تطبيق حل الدولتين وبين محاكمة الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات في المحاكم الدولية. هذه انتفاضة فلسطينية سلمية على العملية التفاوضية المطاطية ترافق القرار الاستراتيجي الذي اتخذته القيادة الفلسطينية المتمثلة بالرئيس محمود عباس وهو «لا لعسكرة الانتفاضة». فبتعطيل القوانين الدولية كمرجعية، بات القانون الدولي والشرعية الدولية جزءاً من مرجعية المفاوضات. وهكذا، إن الأدوات القانونية الجديدة ستغيّر قواعد اللعبة بين طرفي النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي كما مع رعاة «عملية السلام» المتمثلين بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة الذين تجمعهم ما يسمى «الرباعية». ستلجأ السلطة الفلسطينية إلى الانضمام إلى المعاهدات والوكالات الدولية واحدة تلو الأخرى، كما يقتضيه الرد على إجراءات انتقامية، إسرائيلية أو أميركية بدأ الإعداد لبعضها، ودخل بعضها حيز التنفيذ، عقاباً لخطوة الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية. ستدفع السلطة الفلسطينية ثمناً باهظاً ما لم تتخذ الدول العربية قراراً جدياً يقضي بتمويل السلطة الفلسطينية فيما تسعى لتحقيق إنجاز الدولة الفلسطينية المستقلة. ففي الأمر مجازفة ومغامرة، إنما الجديد هو تدعيم المفاوضات بالشرعية الدولية وإطلاق سراح العملية التفاوضية من رهينة السياسة أو التصعيد العسكري.
الجديد هو أن الطرف الفلسطيني المقنَّن تقليدياً في خانة الضعيف المضطر للخضوع للإملاءات يملك اليوم حق التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية للشكوى على جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل، وأيضاً للشكوى على ممارسات الدولة القائمة باحتلال دولة أخرى، من إنشاء المستوطنات غير الشرعية إلى الإبعاد القسري للفلسطينيين.
الأدوات الجديدة لدى الطرف الفلسطيني المتمثلة بحق الشكوى ورفع الدعاوى قد تقوّي الشروط التفاوضية للفلسطينيين وتفرض مقاربة جديّة من نوع آخر لدى الإسرائيليين نحو حل الدولتين. في المقابل، قد يوظّف اليمين الإسرائيلي المتطرف ما يعتبره تصعيداً فلسطينياً واستفزازاً مرفوضاً لتحقيق نسف حل الدولتين الذي لا يريده واستبداله بالطرد الجماعي للفلسطينيين لحل المعضلة الديموغرافية لإسرائيل وتنظيفها لتصبح دولة يهودية محضة. إنما الجديد هو أنه، بموجب ميثاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، تعتبر فلسطين قانونياً بعد انضمامها إلى المحكمة، دولة تحت الاحتلال. وهذا يعني أن إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال، تقع تحت طائلة المحكمة.
سيُقال إن أدوات القانون الدولي كحليف للسلطة الفلسطينية وكمرجعية جديدة لها في المفاوضات وفي المحاكمات لا تعني كثيراً، لا سيما أن الشكاوى والمحاكمات تستغرق وقتاً طويلاً – هذا إذا أُجريت حقاً. وقد يقال إن للشعب الفلسطيني الراضخ تحت الاحتلال والفقر والبؤس والمزايدات السياسية والتصعيدات العسكرية والحصار ليس في حاجة إلى القانون الدولي حليفاً وهو لا يريد دفع ثمن الانتقام الآتي من إسرائيل ومن الولايات المتحدة.
هناك إيجابيات وسلبيات لهذه الخطوة الفلسطينية الجريئة والمدروسة منذ عام 2012 – يوم التحقت دولة فلسطين بالأمم المتحدة بصفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. عندذاك كان في وسعها التوجه فوراً بإجراءات طلب الانتماء إلى نظام روما والالتحاق بالمحكمة الجنائية الدولية.
ارتأت السلطة الفلسطينية حينذاك ألّا توظف تلك الورقة فوراً، بل تعمَّدت إعطاء الديبلوماسية الأميركية فرصة لإثبات جدارة وعودها بتحقيق «حل الدولتين». وضعت أمام إسرائيل والولايات المتحدة الاختيار بين العمل الجدي لإنهاء الاحتلال وبين الاضطرار إلى محاكمة الاحتلال. أوضحت السلطة الفلسطينية أن هدفها المفضل هو إنهاء الاحتلال وتحقيق «حل الدولتين» وليس محاكمة الاحتلال وتقويض «حل الدولتين». وضعت ورقة الالتحاق بالمحكمة الجنائية في جيبها رافضة الاستغناء عنها تلبية لضغوط أميركية وبريطانية. عكفت على إعطاء الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته كل فرصة ومساعدة لإنجاح المفاوضات لتحقيق حل الدولتين. فعلت كل ما في وسعها فيما استمرت إسرائيل بتشييد المستوطنات غير الشرعية وتملّصت من استحقاقات «حل الدولتين».
لمّح الرئيس الفلسطيني إلى خيارات اضطرارية بما فيها حل السلطة الفلسطينية نفسََها، ما يضع مسؤولية احتلال الضفة الغربية في أحضان الحكومة الإسرائيلية بعد استقالة السلطة من لعب دور الضامن الأمني لإسرائيل بموجب التعهدات والتفاهمات الثنائية. لم ينفذ ذلك التهديد، لكنه يُبقيه خياراً أمامه. قد يكون حل السلطة سيفاً ذا حدين، لكنه يُرعب إسرائيل حتماً. فإسرائيل تخشى إضعاف السلطة الفلسطينية لدرجة الاضمحلال، لا سيما أن البديل الجاهز عنها هو «حماس» ومنظمات فلسطينية أخرى سئمت انتظار وعود «عملية السلام»، أو هي متأهبة لإسقاط السلطة الفلسطينية.
الانقسامات الفلسطينية زادت الضغوط على الرئيس محمود عباس في الوقت الذي ازدادت التعبئة الشعبية ضده. حروب «حماس» وإسرائيل أضعفته أكثر فأكثر. جولات جون كيري المكوكية أحرجته أكثر فأكثر. «عملية السلام» تحولت إلى غطاء مرفوض شعبياً بسبب ميوعتها ومطاطيتها.
قرر محمود عباس أن الوقت حان للالتزام الدولي بتحديد إطار زمني للمفاوضات مع إسرائيل وربطه بإطار زمني لإنهاء الاحتلال. تحركت الديبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة المتمثلة بالسفير رياض منصور أواخر 2014 في هذا الاتجاه في مجلس الأمن الدولي وأصرّت على استصدار قرار عن المجلس في هذا الاتجاه. نُصِحَت بالتمهل والتريث حتى 2015 حتى من وفود الدول العربية في الأمم المتحدة. لكن الديبلوماسية الفلسطينية أصرّت على طرح مشروع القرار على التصويت قبل رأس السنة الجديدة. فشل مجلس الأمن في تبني القرار، من دون اضطرار الولايات المتحدة لتحمل تداعيات تفردها بإسقاط مشروع القرار باستخدامها حق الـ «فيتو»، بعد أن تراجعت نيجيريا عن تعهدها للفلسطينيين بدعم القرار، أدى إلى عدم حصوله على الأصوات التسعة اللازمة، أو أن الديبلوماسية الفلسطينية خَدَمت الولايات المتحدة بإصرارها على طرح مشروع قرار وهي تدرك أنه لا يضمن دعم 9 دول، فرَحمَت الولايات المتحدة من تداعيات الـ «فيتو».
الأهم أن السلطة الفلسطينية أرادت اختبار الأسرة الدولية عام 2014 حول فكرة تحديد إطار زمني للمفاوضات ولإنهاء الاحتلال، واتخذت الإجراءات لاستهلال 2015 بالتوجه إلى المحكمة الجنائية في حال خذلتها الأسرة الدولية في مجلس الأمن. وهذا تماماً ما حدث.
وراء تلك الاستراتيجية قرار السلطة الفلسطينية بأن الوقت حان لإيقاف المفاوضات الثنائية مع إسرائيل بموجب «عملية السلام» المطاطية لتحل مكانها مفاوضات عبر مؤتمر دولي يشبه مؤتمر مدريد.
قد تعود السلطة الفلسطينية إلى مجلس الأمن تكراراً سعياً وراء قرار تحديد الإطار الزمني لإنهاء الاحتلال، لكن الواضح أن لا ثقة للسلطة الفلسطينية بقدرة مجلس الأمن على ذلك الموقف، ولا أمل لها بما يسمى «الرباعية». فهي تريد رعاة جدداً لمقاربة جديدة لإنقاذ المفاوضات. وهي تراهن على التغيير في الساحة الأوروبية، الرسمية والشعبية، بعد اعتراف السويد بدولة فلسطين ونقاشات مهمة في البرلمانات الأوروبية عكست السأم من المماطلة الإسرائيلية والغضب من استمرار تشييد المستوطنات. هذا إلى جانب قفز السلطة الفلسطينية إلى التقاط تحرك فرنسي وَعَد بمقاربة جديدة لإنهاء الاحتلال وأعرب عن الاستعداد لحشد الدعم الدولي لمؤتمر على نسق مدريد يُعقَد في باريس.
قد يكون مفيداً البناء على الأجواء الأوروبية الرسمية والشعبية بهدف محاكمة الاحتلال واللجوء إلى القانون الدولي والشرعية الدولية كجزء من مرجعية المفاوضات. إنما من الخطر الرهان على استعداد فرنسي لأخذ مقعد قيادة المفاوضات من الولايات المتحدة. فهناك اعتبارات ثنائية لفرنسا مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، ثم إن وزن فرنسا في هذه المعادلة ليس كافياً ليحل مكان «الرباعية». لذلك، من الضروري للسلطة الفلسطينية عدم الإفراط في البناء على التحوّل في المواقف الفرنسية مهما صدقت باريس في رغبتها بالمساعدة.
ثانياً، ما لم تكن أوروبا جاهزة لمعاقبة إسرائيل جدياً على مواقفها، فالرهان على أوروبا يبقى مغامرة. لذلك، يجدر بالسلطة الفلسطينية التوجه إلى رسم السياسات الآتية وفي ذهنها أمران: أدوات التأثير الأوروبي عبر عقوبات على إسرائيل. وأدوات التأثير العربي عبر معونات لفلسطين في هذه المرحلة الدقيقة تعويضاً عن عقوبات أميركية وإسرائيلية تضرب العمق الفلسطيني وتكبّل يد السلطة الفلسطينية. كلاهما يتطلب خطة عمل مفصّلة، واعية، عملية، واقعية.
ثالثاً، واضح أن الرسالة الفلسطينية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل هي «كفى». السلطة الفلسطينية قرّرت الكف عن تلبية أجندات الانتخابات – أميركية أو أسرائيلية – ولا يهمها أن تجرى الانتخابات الإسرائيلية بعد 70 يوماً. ولا تبالي ما إذا كان اليمين الإسرائيلي سيحاكمها أو كان اليسار الإسرائيلي سيعاتبها. تريد التحرر من قيود «عملية السلام» التي كبلتها بلا مردود، وهي عاتبة جداً على إدارة أوباما لأنها تعرف تماماً أن محمود عباس ضد عسكرة الانتفاضة لكنه ليس قادراً على المضي بدولة رمزية ووعود عائمة. إنما في الوقت نفسه، لا بد من جردة جدّية لعواقب تطوّر العلاقة الأميركية – الفلسطينية إلى مواجهة وإفرازات ذلك على الأرض بأبعد من رسالة القرف. ولا بد من سياسات استباق واحتواء الانتقامين الأميركي والإسرائيلي معاً.
رابعاً، هناك بعد آخر قد يترتب على اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية له علاقة باحتمال محاكمة «حماس» بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فقد نُشِرَت تقارير تحقيقات دولية وجّهت التهمة إلى كل من إسرائيل و «حماس». فماذا ستكون استراتيجية السلطة الفلسطينية في ضوء مثل هذا التطور؟ وأين «حماس» في تقويم الخطوة التي قامت بها السلطة الفلسطينية وهي تدرك أنها معرّضة للمحاسبة في المحكمة الجنائية الدولية، كما إسرائيل.
يدرك أبو مازن من دون شك أن إسرائيل تنوي قلب الطاولة عليه لتقول أن من يتهمها بارتكاب جرائم حرب ويرفع الشكوى ضدها في المحكمة الجنائية الدولية ليس الشريك في المفاوضات السلمية. لكنه لا يبالي. فمهما فعل، لا يعجب ذلك إسرائيل ولم يحصد له إنهاء الاحتلال ولا قيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل.
محمود عباس في حاجة لأن يذكره التاريخ بأكثر من الرئيس الذي منع عسكرة الانتفاضة خوفاً على شعبه الأضعف في معادلة العسكرة، وإيماناً منه بالحل التفاوضي. فهذا لا يرقى إلى إقامة دولة.
تركة محمود عباس للتاريخ بعد الانضمام إلى المحكمة الجنائية تميّزه على أنه القائد الفلسطيني الذي أخذ الاحتلال الإسرائيلي إلى المحكمة الجنائية الدولية، والقائد الذي تجرأ على محاكمة الاحتلال.
قد تكون هذه الخطة نكسة قاضية على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وقد تكون المحرّك الذي يبعث روحاً في مفاوضات تحتاج إلى ترميم في بنيتها التحتية.
الاختيار بين الأمرين ليس قراراً فلسطينياً حصراً. العواقب تطاول إسرائيل بالتأكيد، إنما لا تطاولها وحدها.