ثمة شعور يتآكل السلطة الفلسطينية وحركة «فتح» منذ اندلاع حرب غزة، هو شعور «الزوج المخدوع»… «آخر من يعلم». وهذا الشعور بدأ يخرج إلى العلن أخيراً، خصوصاً مع انهماك الجميع في تحضير تسوية معينة لغزة، تغيب عنها السلطة تماماً!
في المحادثات الجارية في القاهرة حالياً، بين الأدمغة المخططة وذوي القرار، يتفاوض الإسرائيليون والأميركيون والمصريون. وأحياناً، تشارك قطر أو فرنسا. أما إيران فهي موجودة دائماً في شكل غير مباشر، لأنها هي صاحبة القرار الأول لدى «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
وأما السلطة الفلسطينية التي هي مبدئياً الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، باعتراف عربي ودولي، فلا وجود لها على الطاولة ولا في الاتصالات عن بُعد، ولا حتى في أفكار «اليوم التالي» التي يجري تحضيرها لغزة، أي بعد أفول سلطة «حماس» ونفوذها العسكري والسياسي وإدارتها للقطاع.
تقف السلطة الفلسطينية في رام الله متفرجة، فيما الأصابع العربية والإقليمية والدولية «تطبخ» للفلسطينيين ما يجب أن يتناولوه في غزة. فلا هي ستكون موجودة على معابر غزة، مع أنها أرض فلسطينية كالضفة الغربية. ولا هي ستتولى إدارة القطاع، لأنّ إسرائيل تريد تكليف شخصيات فلسطينية محلية هذه المهمة.
بدأ كوادر «فتح» والسلطة «يَبقّون البحصة»، بعد صمت طال 8 أشهر. يقولون: غزة فلسطينية، ونحن الممثلون الشرعيون لشعبنا، فعلى الجميع أن يرفعوا أيديهم عنها ويتركوها. إنها شأننا كما الضفة الغربية.
يعتبر هؤلاء أن أكبر مؤامرة يمكن أن تُحاك اليوم ضد القضية الفلسطينية هي فك ارتباط غزة بالسلطة، بعد غياب «حماس»، لأنّ ذلك سيعني المزيد من شرذمة الأرض الفلسطينية وتسليم قرارها إلى قوى خارجية، لكل منها مصالحه التي قد لا تلتقي ومصالح الشعب الفلسطيني.
حتى اليوم، مارس هؤلاء الكوادر «ضبط النفس»، ولم يعلنوا موقفهم الحقيقي من عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها «حماس» في 7 تشرين الأول 2023، وكانت الشرارة التي أشعلت الحرب الحالية. لكنهم بدأوا البوح شيئاً فشيئاً: على «حماس» أن تتأمل ما جرى وتفكر في مصالح الشعب الفلسطيني. هل ما قامت به يخدم هذه المصالح؟ هل دمار غزة وتهجير الكثيرين من أهلها ومقتل 36 ألف مواطن وجرح وإعاقة 100 آخرين سيقود إلى نصر معيّن يخدم القضية الفلسطينية أم إلى وضع أشد سوءاً؟
تنظر «فتح» إلى الوضع بكثير من التشاؤم والقلق، وتعتقد أن الحرب أتاحت للمتطرفين في إسرائيل أن يحققوا أهدافهم بالسيطرة على غزة، وسمحت للقوى الإقليمية والدولية بأن تتاجر بدماء الفلسطينيين. وبقيت كوادر «فتح» تقول هذا الكلام داخل الغرف المقفلة منذ اليوم الأول للحرب، ولكنهم رأوا أن الأوان قد آن للبوح به علانية. فلم يعد هناك شيء يمكن إخفاؤه بعد اليوم، ولم يعد للفلسطينيين شيء يخسرونه.
يُسأل هؤلاء: ولكن، ألم تجد «حماس» نفسها مضطرة إلى الدخول في هذه الحرب لتعيد تعويم القضية الفلسطينية؟ هل تفهم إسرائيل لغة أخرى سوى العنف والقوة لتعترف بحقوق الفلسطينيين؟ ألا تقوم إسرائيل بالالتفاف على اتفاقات أوسلو وتسعى إلى تذويب الشخصية الفلسطينية ببطء حتى تكاد تصبح القضية طي النسيان؟
يقول هؤلاء الكوادر: الكفاح الفلسطيني المسلح نحن أسّسناه، وفيه قدّمنا التضحيات لعشرات السنين، ومارسنا مقاومة هَزّت العالم ووضعت القضية الفلسطينية في واجهة الاهتمامات الدولية. ولكننا في النهاية، استثمرنا هذا الكفاح في أوسلو لإنتاج تسوية تحفظ لنا بالحد الأدنى هويتنا وقضيتنا الوطنية. فالكفاح المسلح إذا لم يكن ضمن تصوّر وطني واضح يصبح نوعاً من الانتحار. ونخشى أن هذا الفخ هو الذي وقعت فيه «حماس» في غزة.
اليوم، إيران تقرر ما ستفعله «حماس»، ربطاً بمعادلة الصراع الذي تخوضه مع إسرائيل والولايات المتحدة. ومن المفيد أن يقدم أي طرف إقليمي دعماً للفلسطينيين كي يحققوا الانتصارات، ولكن عندما يكون القرار لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك الطرف الدولي، يصبح الفلسطينيون مجرد أداة ومادة صراع، وتصبح أرضهم ساحة لا أكثر.
وعندما يفتح حلفاء إيران مواجهات «المشاغلة» على الحدود الشمالية لإسرائيل، ويعلنون أن الهدف هو تخفيف الضغط العسكري عن غزة، فهل يقصدون بذلك أنهم باتوا أكثر حرصاً على غزة من الفلسطينيين أنفسهم، ومن سلطتهم الشرعية وحركة «فتح» التي بقيت لعشرات السنين مدرسة في النضال الوطني، قبل انتقالها إلى المرحلة الجديدة، أي النضال السلمي؟
هذه الأصوات داخل حركة «فتح» والسلطة الفلسطينية يُتوقع أن تتنامى في الأيام والأسابيع المقبلة، توازياً مع اقتراب المأزق المنتظر: لمن ستكون غزة في «اليوم التالي»؟