«العزيزة وزيرة الخارجية، مادلين اولبرايت:
كل عملية هدم تستهدف منزلاً فلسطينياً تشكل انتكاسة سياسية تمنع تحقيق سلام عادل في الشرق الأوسط.
وعلى سبيل التذكير، فان الحكومة الإسرائيلية أمرت بهدم أكثر من ألفي بيت فلسطيني منذ إعلان اتفاق أوسلو.
لذلك أنا أطلب منك التدخل لممارسة ضغط معنوي على السلطات الإسرائيلية، لعلها تتوقف عن ممارسة هذه الوسائل غير الإنسانية».
هذه الرسالة وصلت إلى مكتب وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، مع صورة فوتوغرافية لعائلة فلسطينية يقف أعضاؤها فوق ركام منزل هدمته جرافة جيش الاحتلال.
واختار المصور محفوظ أبو ترك رفع الشكوى إلى أولبرايت، لسببَيْن: أولاً – لأنها تحدثت عن ماضيها البائس، وعن معاناتها الطويلة تحت وطأة الاحتلال النازي أثناء الحرب. ثانياً – توقع محفوظ أن يكون بمقدورها ممارسة نفوذ خاص على المسؤولين الإسرائيليين – مثلما فعل هنري كيسنجر – كونها تنتمي إلى أسرة يهودية معروفة في تشيكوسلوفاكيا.
ولكن توقعات محفوظ الفلسطيني لم تلقَ الصدى المطلوب لأن أولبرايت لم تكن حرة في قراراتها السياسية، ولم تكن مكلفة في عهد الرئيس بيل كلينتون، برسم استراتيجية وزارة الخارجية. ذلك أن اللوبي الإسرائيلي (ايباك) هو الذي اختار ثلاثة ديبلوماسيين لتوجيه الرئيس ورسم خطوط سياسته، هم: مارتن انديك ودنيس روس وارون ميللر.
كذلك وقع جورج بوش الابن تحت سيطرة هذا اللوبي الذي اختار له أسوأ معاونين منحازين لإسرائيل هم: جون بولتون ودوغلاس فايث وبول وولفويتز وريتشارد بيرل وديفيد وورسمر.
ويُجمع المحللون في الولايات المتحدة على القول بأن هذه الشلة كانت تمثل قوة التحريض لضرب العراق، خدمة لإسرائيل… لا خدمة لمصالح أميركا.
وأبرز الأهداف التي يسعى هذا «اللوبي» إلى تحقيقها، تتمثل في أهمية الحفاظ على دعم سيد البيت الأبيض، ومنعه من تنفيذ مقررات تقود إلى السلام مع الفلسطينيين. كل هذا قبل تهويد القدس ونشر مستوطنات في الضفة الغربية تعرقل بناء دولة قابلة للحياة والنمو.
وهذا ما أكدته الدراسة الموثقة التي وضعها الكاتب أفي شلايم في مؤلفه «الجدار الحديد»، والذي يُثبت أن فشل مفاوضات السلام، طوال خمسين سنة، مردّه إصرار إسرائيل على نسف مقومات السلام العادل.
وأتذكر، في هذه المناسبة، جواب الرئيس ريتشارد نيكسون على سؤال وجهته إليه حول أهم مسألة أزعجه عدم تحقيقها في عهده. وأجاب بانفعال تشوبه غصّة الندم: السلام بين سورية وإسرائيل.
وقبل أن يتجاوز هذه العبارة، عدت أسأله عن المعوقات التي أضاعت تلك الفرصة. وطلب مني إقفال المسجل، كأنه يتردد في إفشاء السر.
ثم تابع نيكسون يقول: أثناء زيارتي دمشق في منتصف حزيران (يونيو) 1974، كان يرافقني وزير الخارجية هنري كيسنجر وعدد من كبار الموظفين. وقد فاجأتني صراحة حافظ الأسد، واستعداده لقبول سلام مشروط مع إسرائيل. وعندما اتفقت معه على ضرورة تحديد الجولة الثانية لاستئناف المشاورات، تدخل كيسنجر ليذكرني بلهجة ساخرة، أن العجوز الشمطاء (يعني غولدا مائير) ستعاقبنا بقبلاتها المبللة إذا نحن تأخرنا عن احتفالات الاستقبال في المطار.
وإزاء إلحاحه على المغادرة، قلت له مؤنباً: ألا تريدني أن أتكلم يا هنري عندها ابتسم معتذراً، وأكد لي أنه سيعود في أقرب وقت لاستكمال المفاوضات مع الأسد. ولما وصلت إلى واشنطن بعد فترة وجيزة، وجدت فضيحة «ووترغيت» بانتظاري.
وتوقف فجأة عن مواصلة الحديث، ليعود ويسألني بلهجة الشك: «هل عرفت الآن لماذا انحرفت المفاوضات عن مسارها السابق؟ لأن إسرائيل لم تكن مستعدة لسلام تعود فيه مرتفعات الجولان إلى سورية».
ومات نيكسون وهو مقتنع بأن جميع حكام إسرائيل لن يحيدوا عن الخط السياسي الذي رسمه الإرهابي جابوتنسكي الذي كان يطالب في تظاهرات 1929 بكل أرض فلسطين.
ومثل هذه الأطماع التاريخية تنسحب على جميع رؤساء حكومات إسرائيل، بدءاً بديفيد بن غوريون وموشيه شاريت وليفي اشكول… مروراً باسحق شامير ومناحيم بيغن… وانتهاء بغولدا مائير وإيهود باراك وشمعون بيريز وإيهود اولمرت وبنيامين نتانياهو.
وحده إسحق رابين حاول مخالفة هذا الخط السياسي لإيمانه بأن الديموغرافيا العربية لا تعمل لمصلحة إسرائيل الكبرى. وقد اغتيل على يد شاب متعصب عُرِف عنه تعلقه الشديد بأفكار نتانياهو. علماً أن رابين كان صاحب فكرة بناء المستوطنات عقب حرب 1967، بهدف تمزيق وحدة التكامل الجغرافي للدولة الفلسطينية.
واليوم، يتهيأ نتانياهو لخوض انتخابات آذار (مارس) على أمل تشكيل جبهة سياسية قوية تكون مستعدة لمواجهة التحديات المتعاظمة في منطقة الشرق الأوسط. أي التحديات التي تعززها موجة العنف الممثلة بـ «القاعدة» و»داعش» وكل مَنْ حذا حذوهما.
ويرى المحللون أن نتانياهو مصاب بمرض الغرور والغطرسة، بدليل أنه قدّم موعد الانتخابات بسبب فوزه بنسبة كبيرة في المنافسة الحزبية. وهو يتطلع إلى عام 2015 كمرحلة فاصلة يمكن أن تقوده إلى الحرب ضد إيران و»حزب الله» و»حماس»… أو إلى الانكفاء والعزلة في حال استمرت المنظومة العربية في التفكك والتشرذم.
من جهة أخرى، يشعر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) بأن إسرائيل جرّدته من كل أوراقه السياسية والاقتصادية، ودفعته إلى زاوية مهمشة من دون صلاحيات أمنية أو مدنية.
ويفسر رئيس الوفد المفاوض صائب عريقات الوضع الفلسطيني المهترئ بأنه بلغ نهاية الحل، وإنما من دون حل! وهو بهذا الوصف كان يشير إلى ضمور صلاحيات السلطة الفلسطينية، التي حددها اتفاق أوسلو، وإلى انتهاء الفترة الانتقالية، أي فترة الخمس سنوات، التي كان يفترض أن تنتهي خلالها المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية باجتراح حل يُرضي مختلف الأطراف المعنية.
بعد مرور 21 سنة على اتفاق أوسلو، يسعى الرئيس عباس إلى تغيير الشريك الإسرائيلي والاحتكام إلى الأمم المتحدة. وقد اختار الانضمام إلى نظام روما التأسيسي لمحكمة الجنايات الدولية. وفي تصوره أنه سيبدأ بحصيلة عام 2014 التي حصدت خلالها السلطة الإسرائيلية 2240 شهيداً فلسطينياً بينهم 2181 سقطوا إبان حصار غزة.
الناطق باسم أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، أبلغ الدول الأعضاء قبول طلب الانضمام الفلسطيني إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. وعلق وزير خارجية إسرائيل على هذه الخطوة بالقول إن اتفاقات أوسلو قد انهارت، خصوصاً بعدما قرر نتانياهو عدم تحويل 130 مليون دولار من العائدات الضريبية المستحقة للسلطة الفلسطينية.
وأعلن صائب عريقات، عقب وقف التحويل، أن الحديث يدور عن سرقة في وضح النهار، وعمل قراصنة وليس عمل حكومات شرعية. وهذه الأموال ليست صدَقة للشعب الفلسطيني، بل هي من حقه.
مقابل الخطوة الفلسطينية، اجتمعت الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ سلسلة إجراءات انتقامية، بينها:
أولاً – المطالبة بديون تبلغ 400 مليون دولار هي حصيلة استخدام الطاقة الكهربائية لعدة سنوات.
ثانياً – الضغط على الكونغرس الأميركي لوقف المساعدات الاقتصادية والمالية، عملاً بالقانون الذي يجمّد هذه المساعدات في حال توجه الفلسطينيون إلى المحكمة الجنائية الدولية (400 مليون دولار سنوياً).
ثالثاً – الاستعداد لرفع شكوى ضد المحكمة الجنائية، والطعن في قانونية عملها، بعدما رفض مجلس الأمن طلب السلطة الفلسطينية إقامة دولة مستقلة. ومعنى هذا انه يتعذر على رئاسة المحكمة اعتبار «السلطة» دولة. و»السلطة» في هذه الحال لا ينطبق عليها ميثاق مونتغيديو المتعلق بتعريف «الدولة» بأنها «إقليم بحدود دائمة ومُعتَرَف بها».
رابعاً – إن الجسم القضائي غير موجود في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب هيمنة السلطات الإسرائيلية على التحقيقات والإجراءات الأمنية. ولهذا يتعذر على محكمة لاهاي الاستناد إلى الهيئة القضائية الفلسطينية.
يوم الخميس المقبل، تعقد الجامعة العربية في القاهرة اجتماعاً طارئاً يحضره محمود عباس، وذلك بغرض مراجعة قرار مجلس الأمن. وكان المجلس قد صوَّت ضد مشروع قرار فلسطيني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. ومن المتوقع أن يُصار إلى التوجه مجدداً إلى مجلس الأمن لطرح مشروع القرار الذي قدمه الأردن باسم المجموعة العربية. كذلك سيُصار إلى بحث موضوع الرواتب الشهرية لموظفي السلطة بعدما جمّدت إسرائيل أموالاً تخص الفلسطينيين.
وتؤكد مصادر الجامعة أن للسلطة مصادر بديلة، بينها مبلغ 31.6 مليون دولار من صندوق النقد الدولي. كما أن لدى الجامعة تعهدات بتحويل مئة مليون دولار في حال وجود حصار اقتصادي إسرائيلي. والمثل على ذلك أن السعودية تبرعت السنة الماضية بمبلغ 20 مليون دولار شهرياً كمساعدة لتغطية العجز الشامل للسلطة. ويقدر المطلعون أن السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت ستعوض عن مبلغ 400 مليون دولار، إذا استمرت الإدارة الأميركية في الامتناع عن تحويل المساعدة.
إضافة إلى ذلك، فان الدول الأوروبية، كالنرويج والدنمارك والسويد وفرنسا، هددت إسرائيل بدعم السلطة الفلسطينية إذا تبيّن لها أنها مستمرة في خرق اتفاقات باريس من عام 1994.
والخلاصة، أن محمود عباس قد تبنى استراتيجية النضال الديبلوماسي بدل الكفاح المسلح الذي تعتمده «حماس». وقد تركته الفصائل الفلسطينية يغامر بكل أوراقه حتى نهاية هذا الشهر. ومن المؤكد أن حصيلة هذا الجهد ستنعكس في شكل سلبي على المعركة الانتخابية الأخيرة التي يخوضها نتانياهو في آذار (مارس) المقبل!