أظهرت الأشتباكات الفلسطينية – الفلسطينية داخل مخيم عين الحلوة، أزمة جديدة، كانت بعيدة عن الأعين: النزوح عن المخيمات، لأنها لم تعد آمنة للعيش، في نظر الكثرة الكاثرة من الأهالي الذين يعيشون داخلها، لعقود طويلة. صار هؤلاء يشعرون بالخوف على عيالهم، ويشعرون بالخوف على ضياع العام الدراسي لأولادهم في المدارس والثانويات والجامعات، وكذلك بضياع فرص العمل. إذ صارت بوابات مخيم عين الحلوة، كما بوابات سائر المخيمات، تحت المراقبة المشدّدة، بحيث يطلب منهم عند الدخول والخروج، وضع أسمائهم على الحواجز الأمنية، وهذا ما يعرّضهم لتشابه الأسماء، وللعرقلة الشخصية عند الدخول والخروج، وهدر الوقت. مما يتسبب لهم في التأخير عن الإلتحاق بالمراكز والمؤسسات، وبالتأخير عن الوصول إلى الأعمال.
كذلك بدأت تشعر كثير من العائلات، بأنه صار من الصعب على أفرادها الخروج من المخيمات لطلب الأسواق، وطلب الحاجات في الأسواق. ناهيك عن الشعور الدائم الذي يلازم الناس في المخيمات، بفقدان البضائع، وبفقدان الماء والكهرباء والمازوت والبنزين والغاز.. خصوصا على أبواب فصل الشتاء.
إضافة إلى ذلك، صار الناس في المخيمات، يشعرون بعدم الأمان، في ظل الأمن المفقود، وفي ظل المطاردات، وفي ظل الكمائن التي صارت واسعة الإنتشار، داخل الأزقة، وداخل الأحياء.. بعد ظهور خطوط التماس، والتدقيق في الهويات على المعابر، بين هذا الحي وذاك، بين هذا الزاروب وذاك.
يشعر الأهالي في المخيمات اليوم، بالخوف الشديد على أولادهم، وعلى شبابهم، وعلى بناتهم وعلى رجالهم والنساء.. فلم يعد المخيم آمنا، ولم يعد حديقة خلفية بعيدة عن الأنظار. ولهذا صاروا يحسبون ألف حساب، وهم يقطعون حياتهم داخل المخيم، وهم يقولون: إن هذه الظاهرة إذا ما عمّمت، تدفع بالأهالي، للتفتيش والبحث عن أماكن العيش البديلة. إذ لا يمكن أن يظلوا على الخوف الدائم من المفاجآت غير السارة التي تتربص بحياتهم، بعد تكاثر النبل التي توقع بهم، من غير جهة من الجهات.
ظاهرة النزوح عن المخيمات، بعدما كانت المأمن والأمان والعيش المطلوب للتهرّب والتهريب، تبدو اليوم، مثل قنبلة قابلة للتفجير، بعد مخيم عين الحلوة، في جميع المخيمات. وقد جرت مثل هذه التجربة سابقا، في مخيم نهر البارد، فغادره الأهالي، وانتشروا في قرى ومدن الشمال، ونالت طرابلس حصة عظيمة من هذا الإنتشار. وما عرف الكثيرون منهم العودة إلى مخيم البارد، إلّا بعد سنوات، وكذلك بعد إعمار المخيم، وبعد فتح بواباته لهم ضمن شروط، وعلى عهدة القوى الأمنية. وصارت هذه البوابات، تغلق وتفتح في المواقيت المحددة، وهذا ما قلّل من عدد العائدين إلى المخيم. فاندرجت العائلات الخائفة بعد خروجها منه، في البيئات الجديدة. وصارت نسبة العائدين إلى المخيم، لا تتجاوز 15%، ممن كانوا فيه سابقا.
عائلات مخيم عين الحلوة، كما العائلات الكثيرة في سائر المخيمات، تفكر اليوم في «النزوح الإستباقي» من المخيمات، أو قل في الجلاء عن المخيمات، إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، خصوصا بعد تجربة مخيم نهر البارد سابقا، وبعد تجربة عين الحلوة لاحقا. صارت العائلات تنسل من المخيمات واحدة بعد أخرى، ويكفي أن تعود الأحداث إليها، حتى يصبح النزوح عن المخيمات قائما على قدم وساق، عودا على بدء.
فبعد أن إشتدّت المعركة الأخيرة بين الفصائل، في مخيم عين الحلوة، جرى إخراج السكان العالقين في زواريب خطوط التماس، إلى شاطئ البحر في صيدا. فهبّ الصيداويون جميعا لمواجهة ما أسموه «كارثة» على مدينتهم، وأجلوهم للفور عن المكان. وعلى ضوء ذلك، بدأ الصيداويون يحذّرون جميع القوى، وينبّهونهم إلى عدم التفكير، في نقل أهالي المخيم، إلى خارجه، وتمددهم في نواحي صيدا. إذ النزوح عن المخيم، إذا ما حمي أوار المعركة وإشتدّ وطيسها، يخفف من شدّة المراقبة والمحاسبة والمعاقبة، بحجة العطف والتعاطف، مع الأهالي المنكوبين مجددا. ونحن نذكر بشدّة التلاحم والتآزر والتعاطف بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، ولكن ليس على حساب حياة اللبنانيين، في ظل مثل هذه الأوضاع الحياتية الصعبة.
فهل مثل هذه الخطط التهجيرية الجديدة من مخيم عين الحلوة، وقبلها من مخيم البارد، ولاحقا ربما، من سائر المخيمات المرشحة للتهجير، هي المقدمة الأولى لتذويب الفلسطينيين في المجتمع اللبناني؟! وللمباشرة لاحقا، بإعداد لوائح التجنيس والتوطين؟!
سؤال ساخن نطرحه اليوم، وهو برسم إحكام خطط النزوح من المخيمات، وإعداد الملفات وتسويقها لدى الأمم المتحدة، ولمقاربة مخيمات السوريين فيما بعد، وربما معا في آن، بنفس هذه الروحية المشبوهة من المعالجات، على حساب لبنان واللبنانيين.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية