Site icon IMLebanon

الخلاف القاتل بين «فتح» و«حماس»

 

عامل آخر مثير للقلق بدأ يظهر في حرب غزة. لقد رمى بنيامين نتنياهو كرة النار في ملعب الفلسطينيين والعرب: إذا توقفت الحرب، فلمن ستكون السلطة في غزة، لـ»حماس» أم لـ»فتح» أم لقيادة فلسطينية جديدة؟ وهذا الطرح الخبيث بدأ يطلق سخونة غير محسوبة بين الفلسطينيين، في التوقيت الخطأ، قد تكون انعكاساته قاتلة.

هناك دلائل كثيرة تؤكّد انّ نتنياهو مستفيد من الحرب في غزة، ولا يريد إنهاءها. وهو بدأ يستعين بالأصوات الشديدة التطرّف في إسرائيل، وبأصوات ذوي ضحايا الحرب من الإسرائيليين، للإيحاء أنّ الرأي العام هناك يضغط لمواصلة الحرب ولا يرضى بإنهائها قبل أن تسفر عن نتائج سياسية مُرْضية.

وفي الواقع، جاءت حرب غزة في لحظة كان يعيش فيها نتنياهو مأزقاً داخلياً خانقاً. فالرجل ليس من النوع الذي يرتاح إلى الحوار السياسي مع أي كان، لا في الداخل ولا في الخارج، ويفضّل المواجهات. ولذلك، هو ينسجم مع رئيس أميركي من نوع دونالد ترامب لا مع جو بايدن.

ومن الواضح أنّ نتنياهو «انتعش» بانفجار الحرب في غزة. فقد منح نفسه مبرراً للبقاء في موقعه، عملاً بقاعدة أنّ الدول لا تغيّر القادة خلال الحروب. ولذلك، هو سيصرّ على الاستمرار في الحرب ليستمر في السلطة. بل إنّه سيمعن شراسة في التدمير والتهجير، مستفيداً من تغطية أميركية وأوروبية غير مسبوقة وقد لا تتكّرر في أي يوم. ويعمل نتنياهو لدغدغة أحلام الشرائح الإسرائيلية اليمينية الأكثر تطرّفاً، ببلوغ أهداف استراتيجية «تاريخية» لم يستطع تحقيقها أي من أسلافه.
أخطر هذه الأهداف هو ما يُراد تنفيذه على المستوى الفلسطيني. فقد بات واضحاً أنّ قطاع غزة موضوع اليوم أمام 3 خيارات: إما التدمير وإما التهجير وإما الاستسلام، والخيارات كلها مؤلمة. ولأنّ مصر ستقفل معبر رفح حتى إشعار آخر، منعاً لتهجير أهل غزة، ولأنّ «حماس» سترفض الاستسلام بالتأكيد، فمعنى ذلك أنّ الخيار الوحيد المتبقي هو استمرار نتنياهو في ضرب غزة وتحويلها ركاماً فوق عشرات الآلاف من أهلها.

ولكن في النهاية، التدمير سيعني التهجير ونوعاً من الاستسلام، ولو لم يعترف أحد بذلك. وما يصيب إسرائيل من خسائر خلال هذه الحرب لا يمكن مقارنته بالكوارث التي تصيب الغزيين في أرواحهم وممتلكاتهم وبناهم التحتية.

لكن أسوأ ما يخشاه المتابعون في هذه الأيام هو أن يقوم نتنياهو بإشعال النار في الضفة الغربية أيضاً، بهدف جعل الملف الفلسطيني كله على النار، وإحراج الأردن هناك كما يتمّ إحراج مصر بغزة. ويترافق ذلك مع مسعى إسرائيلي بدأت تلوح معالمه، ويهدف إلى إيقاع الفلسطينيين في فوضى وإرباك داخليين، نظراً إلى صعوبة اتفاق قياداتهم بين الضفة وغزة على استراتيجية مواجهة مشتركة ضدّ إسرائيل.

يلعب نتنياهو ورقة الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني العميق حول هذه الاستراتيجية، والذي يعود إلى زمن الرئيس ياسرعرفات. فقيادة محمود عباس، تلتزم الصمت الكامل تجاه ما يجري في غزة، لأنّها في العمق تعترض على نهج المواجهة المسلّحة الذي تعتمده «حماس». وعلى رغم التسوية التي جرت بين الطرفين في العام 2014 والتي قضت بتشكيل حكومة وفاق وعاشت 5 سنوات، فإنّ «حماس» بقيت تعتبر استمرار محمود عباس في موقعه، حتى إشعار آخر، بمثابة خلل يجب تصحيحه، وهي تعتقد أنّها قد تصبح المرجعية الفلسطينية لو جرت انتخابات تشريعية ورئاسية طبيعية.

في المقابل، تعتبر «فتح» أنّ «حماس» فرضت في العام 2007 سيطرتها على القطاع، وجعلته مفصولاً عن السلطة الفلسطينية. وتالياً، هي خلقت كياناً فلسطينياً ثانياً، بدلاً من تثبيت كيان موحّد ينسجم مع رؤية الشعب الفلسطيني للهوية الوطنية الواحدة.

وفي الواقع، يطرح الأميركيون تشكيل قيادة فلسطينية جديدة تأخذ على عاتقها إدارة المناطق الفلسطينية كلها، ما ينهي الخلاف الدائر حالياً على قيادة محمود عباس والذي يجعلها ضعيفة جداً. لكن هذا الأمر دونه عقبات لأنّ إجراء انتخابات تشريعية دونه عقبات أبرزها منع إسرائيل إجراءها في القدس ومناطق أخرى محاذية. كما أنّ الأوروبيين والعرب بدأوا يطرحون اليوم تسليم السلطة الفلسطينية زمام الأمور في غزة أيضاً، لعلّ ذلك ينتزع الذريعة من يد إسرائيل لمواصلة التدمير. وهذا الطرح عبّر عنه علناً وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، والرسالة التي ذُكر أنّ المملكة بعثت بها إلى إسرائيل.

فعلى الفور، بدأت تظهر أصوات رافضة عن حركة «حماس»، وفي شكل متوتر. وتردّد أنّ الحركة سارعت إلى تسيير دوريات لشرطتها في القطاع، تحت وابل النار الإسرائيلية، لتأكيد حضورها.
لذلك، يعتقد المتابعون أنّ مسألة السلطة على غزة هي كرة نار رماها نتنياهو في ملعب الفلسطينيين والعرب. فهو يدرك أنّ من المستحيل أن توافق «حماس» على التخلّي عن غزة، وقد دفعت فيه أثماناً غالية جداً. وقد تؤدي أي محاولات لاستضعافها واستغلال انشغالها بالحرب مع إسرائيل إلى تفجير مواجهات أهلية فلسطينية.

وفي أي حال، إنّ إسرائيل تمارس الخبث في هذا الملف. فهي لا تريد أن تكون للفلسطينيين في الضفة والقطاع قيادة واحدة بأي شكل من الأشكال، لأنّ ذلك يعني وحدة الشعب الفلسطيني تحت راية وطنية واحدة، وهذا أمر يعمل الإسرائيليون لنسفه تماماً. بل إنّهم يريدون تذويب هوية فلسطينيي غزة في مصر وهوية فلسطينيي الضفة في الأردن.

لقد اختار نتنياهو أن تكون حرب غزة طويلة الأمد، ولكن بالغة الشراسة، ما يقود تلقائياً إلى تصحير القطاع وإلى إيقاع الفلسطينيين والعرب في مآزق مختلفة. وسيكون صعباً إدراك: مَن انتصر في الحرب. فعلى أنقاض المدن وعشرات آلاف الجثامين ومئات آلاف مصابين والمعوقين، لن يتمكن أحد من التمييز بين الانتصار والانكسار. وسيكون الرهان أن لا ينزلق الجميع إلى الفخ، فيتحول هذا الالتباس سبباً إضافياً لتعميق الهوة بين الفلسطينيين أنفسهم.