IMLebanon

لئلا تقع «الثانية» في الذكرى 57 لـ «النكبة الأولى»؟

 

 

في ظلّ التطورات المتسارعة في المنطقة، تجاهل كثر عبور الذكرى الـ 57 لما سُمّي «النكبة الفلسطينية» في 5 حزيران 1967. ذلك انّ دول المنطقة منشغلة بما يمكن اعتباره «غسل العار» الذي لحق بالعرب جراء تلك «النكبة». وكما لم تَر اسرائيل موجباً لإحياء ذكرى إعلان دولتها الشهر الماضي، لم تحتفل بحرب «الأيام الستة». وعليه، ما الذي توحي به المقارنة السريعة بين تلك المحطة وما يجري اليوم، عند النظر في ما انتجته، وتداعياتها المستمرة حتى اليوم؟

يحفل تاريخ النزاع العربي ـ الإسرائيلي بكثير من الحروب الدموية منذ الإعلان عن وثيقة «قيام دولة إسرائيل»، و«نهاية مرحلة الانتداب البريطاني» على فلسطين فى 14 أيار 1948، وهو الذي تحول لاحقاً ليكون يوم «عيد الاستقلال» ترجمة لعبارة «يوم هاعتسماؤت» الموافق في 5 أيار حسب التقويم اليهودي. بحيث انّ المنطقة عاشت مخاضاً كبيراً تغيّرت فيه معالم وخرائط، ما سُمّي بدول «الجوار الاسرائيلي» وفي عمق الأراضي الفلسطينية بجغرافيتها التاريخية، منذ الإعلان عن قيام السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1993.

 

وباعتراف أحد الباحثين المتمرسين في متابعة قضايا المنطقة وقراءة التحولات الكبرى التي شهدتها، فإنّه كان منطقياً الّا تهتم حكومة إسرائيل ومعها المستوطنون بذكرى الاستقلال ولا بذكرى «حرب الأيام الستة» في ضوء ما تسبّبت به عملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها التي مسّت هيبة الدولة ومناعتها في الصميم. كما بالنسبة إلى قدرتها على مواجهة التطورات التي انتهت إليها منذ السابع من تشرين الأول الماضي، والتي انطلقت من غلاف قطاع غزة في اتجاه عمق المستوطنات المزروعة في جوارها، وما قادت إليه في شكلها وتوقيتها، عدا عن تلك التي تسبّبت بها حرب «الإلهاء والإسناد» التي شنّها «حزب الله» في اليوم التالي في شمال اسرائيل. وصولاً إلى ما بلغته العمليات العسكرية من توسع غير مسبوق في اتجاهات مختلفة، بما فيها الضربات الصاروخية الإيرانية المباشرة في 13 نيسان الماضي رداً على عملية قصف إسرائيل مبنى «القنصلية الايرانية» في دمشق في الاول منه، والتي لم تعرفها أي مواجهة سابقة خاضتها الدولة العبرية في الداخل وجوارها منذ إنشائها.

 

على هذه الخلفيات، توقف الباحث في تاريخ المنطقة، ليلقي الضوء على ما انتهت اليه حرب العام 67، التي عُرفت يومها بـ «الحرب العربية ـ الاسرائيلية الثالثة» من تحولات كبرى مكّنت اسرائيل من السيطرة على ثلاثة أضعاف مساحتها الجغرافية في خلال الايام الستة للحرب. والجميع يتذكّر انّها فاجأت ما عُرف لاحقاً بـ«دول الطوق» بتدمير سلاح الجو المصري والأردني والسوري والعراقي، ونجحت في إقصائه عن مجريات الحرب البرية، وضمنت الاستفراد بالأجواء العربية لشن هجمات ضدّ القوات البرية والقواعد العسكرية، وانتهت باحتلال شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس القديمة ومرتفعات الجولان السورية. وأنهت بذلك ما كانت تتمتع به الأراضي الفلسطينية المحرّرة من رعاية مصرية لقطاع غزة واردنية للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.

وإن نجحت اسرائيل يومها في إقناع المجتمع الدولي بأنّ ما قامت به كان «حرباً دفاعية»، وادّعت انّها استبقت التحضيرات العربية لشنّ هجوم شامل ضدّها. بعدما ربطتها بالإجراءات المصرية التي اتخذها الرئيس جمال عبد الناصر بإقفال مضيق تيران قبل اسابيع قليلة في وجه الملاحة الإسرائيلية، وطلبه بسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء، وحشد الجيش المصري بأعداد كبيرة في المنطقة. وكل ذلك جرى تزامناً مع عودة التوتر قبل اشهر قليلة (عام 1966) على الجبهة الأردنية عقب مقتل 3 جنود إسرائيليين بانفجار لغم ارضي نُصب لهم، وهو ما دفع إسرائيل الى شنّ هجوم قاسٍ على احدى قرى شمالي الضفة تسبّب بمقتل 50 أردنياً. وكل ذلك أضافته اسرائيل في دعم حججها إلى مسلسل الهجمات التي قامت بها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بعد عامين على تأسيسها (1964) انطلاقاً من جنوب لبنان والجولان السوري في اتجاه المستعمرات الإسرائيلية على الجبهتين.

 

وبعدما أجرى الباحث جردة لمسلسل الحروب العربية ـ الاسرائيلية، وتلك التي خاضتها مع المنظمات الفلسطينية قبل إعلان السلطة الفلسطينية وعودة قائدها الرئيس ياسر عرفات الى رام الله وغزة عقب «اتفاق أوسلو»، توقف امام الضربات التي تلقّتها هذه السلطة لمنع توطيد أقدامها والإمساك بالاراضي الفلسطينية المحرّرة سواءً من الجانب الاسرائيلي الذي دُمّر بعد عامين على اغتيال اسحق رابين بتهمة التواطؤ مع السلطة الفلسطينية وإسقاط تفاهم «عباس ـ يوسي بلين»، مطار رفح في غزة، والذي شكّل مظهراً سيادياً من مظاهر الدولة، فيما لم تقصّر الأنظمة العربية في ضرب القادة الفلسطينيين الذين تورطوا في أحداث الاردن قبل لبنان، فكانت عملية «ايلول الاسود»، قبل ان يبدأ مسلسل الحروب الصغيرة في لبنان والتي انتقلت إلى قلب الأراضي الفلسطينية المحاصرة، فكانت «حرب الأخوة» التي انتهت بسيطرة حركة «حماس» وحلفائها على القطاع، وفصلته ما بين العامين 2006 و2008 بحكومة مستقلة عن السلطة بما سًمّي انجازاً اسرائيلياً.

وإلى هذه الملاحظات السريعة التي شكّلت مفاصل مهمّة في مسار السلطة الفلسطينية، توقف الباحث عينه، عندما جاءت حرب العام 1996 في لبنان وانسحاب اسرائيل من معظم الأراضي اللبنانية في أيار من العام 2000 وصولاً إلى حرب تموز 2006 وتداعياتها، والتي قدّمت بشكل من الأشكال لعملية «طوفان الأقصى» التي شكّلت أولى الانتفاضات بأدواتها الفلسطينية كاملة على أراضيها التاريخية بعد مجموعة من الانتفاضات التي مسّت بأمن الداخل من أراضي الـ 48 إلى المدن والقرى المشتركة بين اليهود والعرب على مراحل، وامتدت من العام 2014 الى العام 2023.

 

وعليه، يشير الباحث إلى التوقيت الذي اعتُمد في عملية «طوفان الأقصى» التي اختار قادتها إطلاقها في «يوم الغفران» في الذكرى السنوية الـ50 لحرب العام 1973 التي استعادت فيها مصر اراضي سيناء وطابا، وسوريا بعضاً من أطراف الجولان المحتل، فوجدت انّها قلبت الوضع رأساً على عقب، وغيّرت كل المعادلات التي تحكّمت بالحروب العربية والفلسطينية مع اسرائيل، كما بمسيرة التطبيع معها، وتفرض عودة القضية الفلسطينية بأبعادها التاريخية والسياسية والجغرافية الى صدارة الأحداث العالمية التي لم ولن تستسيغها اسرائيل بأي شكل من الأشكال.

وعليه يقول الباحث، انّ هذه العملية يجب ان تصان بكل القدرات العربية لكي تنتهي باستعادة أبسط حقوق الفلسطينيين بالدولة المستقلة، ليس إنفاذاً لمبادرات عربية وحسب، وانما من اجل إنهاء كل أشكال الاحتلال للأراضي الفلسطينية الذي حرّمته واشنطن بإصرارها على بقاء قطاع غزة ارضاً فلسطينية ومنع احتلاله مرّة اخرى.

 

ويختم الباحث ليؤكّد أنّ المجتمع العربي ومعه محور الممانعة، ان يعي ايضاً انّ اسرائيل التي تقاوم مشروع هذه الدولة قد تكون حقّقت كثيراً من أهدافها في تدمير القدرات الفلسطينية. وإن لم تنتهِ الحرب بإحياء فكرة الدولتين وبحق الفلسطينيين في تقرير المصير والعودة، قد ينقلب الوضع، وتجدّد اسرائيل مشروعها في «الترانسفير» الفلسطيني وتعزيز الاستيطان في الضفة، لإبعاد مقومات الدولة عن مقدّرات السلطة الفلسطينية. وإنّتمعّن البعض بالبحث عن انتصارات في بلدان وملفات اخرى، متجاوزاً حجم الدم الفلسطيني المراق في الداخل، قد يخسر الفلسطينيون حلمهم بالدولة من دون ان يحقّق الآخرون مشاريعهم الطموحة في المنطقة، فيعيشون معاً «النكبة الثانية»، وخصوصاً إن خرجت اسرائيل من عزلتها الدولية، وقد ينتقل بنيامين نتنياهو من موقعه على باب المحاكمة وربما السجن، ليتحول بطلاً تاريخياً يعيد إحياء صورة بن غوريون في العقل الاسرائيلي العميق.