IMLebanon

اللاجئون الفلسطينيون قبل الثورة وبعدها … ما الذي تغيّر؟

 

“خلسةً نُنشد بيروت خيمتنا، بيروت نَجْمتُنا … بيروت خيمتنا الوحيدة، بيروت نجمتُنا الوحيدة”، هكذا يُنشدون وهم مجتمعون في صالة “مركز النقب”. لا يكادون يختمون الجملة حتى يعيدون تكرارها مرة أخرى بصوت واحد كأنها نشيدُ المرحلة. تتحد الأصوات وتعلو أكثر فأكثر عند ترداد عبارة “بيروت خيمتنا الوحيدة”، وكأن الشباب يسيرون في تظاهرة مطلبية أو في ساحات الانتفاضة. هنا حيث ألصقت على الجدران رسومات خالدة لـناجي العلي، يُتابع أبناء مخيم برج البراجنة مجريات الأحداث المتسارعة في لبنان. تتسمر أعينهم أمام الشاشات. يُراقبون بقلوب خافقة متحمسة طرابلس وجلّ الديب وساحة الشهداء وسعدنايل. لا يقوى هؤلاء على ضبط النفس. تغلبهم حماستهم وشعورهم بالانتماء إلى الفضاء العام اللبناني الذي يعيشون معاناته بكل تفرعاتها، تماماً كاللبنانيين، لا بل بمزيد من القسوة والذل، في ظل إحكام القبضة الأمنية على المخيمات ووصم غالبية اللاجئين بالإرهاب والجَهل.

 

باتت الاجتماعات في المركز شبه يومية، ولا حاضر على طاولة جلسات النقاش إلا الانتفاضة اللبنانية. يُعدد الشباب اللاجئون أوجه الشبه بين الحكومة اللبنانية والحكومة الفلسطينية، فيستنتجون سريعاً أنهما وجهان لفسادٍ واحد. هذا الفساد دافعهم الأساسي إلى ارتياد الساحات في كل مكان للمطالبة بحقوق معيشية بديهية، إذ يعاني اللاجئون الفلسطينيون من فساد سلطتهم التي تخلت عن قضيتهم وباتت تُتاجر بأرواحهم مقابل صفقات مشبوهة مع الاحتلال الإسرائيلي. كذلك يعانون في بلدان اللجوء من حرمان وإقصاء وتمييز نتيجة لفساد السلطات التي جعلت ملف اللجوء شمّاعة تَعلّق عليها كل المخاوف، وفزاعة تطفو على السطح عند الحاجة لتأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية.

 

شارك الفلسطينيون في الثورة اللبنانية. حضروا وهم يحملون همومهم المعيشية الكثيرة بيد، ومخاوفهم من أن يعلو أي خطاب عنصري ضدهم في الساحات في اليد الأخرى. فبحسب ماهر (36 سنة) “لا أستبعد أن يأتي من يصرخ في وجهي: “شو خصّك بالثورة ما إنت مش لبناني”، ولكن رغم ذلك أرتاد الساحات وأهتف بكل طاقتي لأنني أعرف جيداً أنني أستحق صفة اللاجئ المواطن، فأنا ألتزم بالقوانين اللبنانية بحذافيرها، ولأنني أعيش خارج المخيم، فأنا أدفع فواتير المياه والكهرباء وأجار منزلي والضرائب للبلدية من دون أي تلكؤ”، مشيراً إلى أن “فساد هذه السلطة يؤثر علي أيضاً. فساد هذه السلطة يحرمني من حقي في الحركة والتنقل بحرية. فساد هذه السلطة يُبرر لوزير العمل اتخاذ المزيد من الإجراءات التعسفية والتمييزية بحقي كعامل. هذا الفساد يتسبب بموتي أنا أيضاً بالسرطان من دون أن يكون لي الحق في العلاج أصلاً. هذا الفساد لا يستثنيني لأنني فلسطيني، بل على العكس يشد الخناق على رقبتي ومن حقي أن أثور عليه وأبتره”.

 

في تموز 2019، أطلق وزير العمل كميل أبو سليمان حملة لملاحقة العمال الفلسطينيين في أماكن عملهم وتحرير محاضر ضبط قانونية ومالية بحق مشغليهم، تحت شعار “مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية”، عبر إقفال مؤسسات يملكها فلسطينيون في لبنان. ليس خافياً على أحد مدى استغلال العمّال الفلسطينيين في لبنان، في ظلّ غياب آليات الحماية وتحصيل الحقوق، نتيجةً لقيام المنظومة الاقتصاديّة في لبنان على العمالة الأجنبية الرخيصة. وقد صُنفت تلك الإجراءات بالإقصائية، خصوصاً أنه لا يمكن فصلها عن إجراءاتٍ سابقةٍ اتّخذتها الحكومة قامت على حرمان الفلسطينيين من أبسط حقوقهم؛ كحق التملك وحق التنقل وإدخال مواد البناء إلى المخيمات ما يجعل غالبيتهم يعيشون في بيوت غير صالحة ومهددة بالإنهيار، وتأسيس جمعيات مدنية، وفرض حصارٍ على المخيمات عبر فرض حواجز دائمة للجيش اللبناني وزرع الأسلاك الشائكة والتعامل معها بوصفها “بؤر إرهاب”.

التضامن مع غزة

 

حضور القضية الفلسطينية في الثورة لم تعكسه مشاركة الشباب الفلسطيني فحسب، بل من خلال التزام بعض اللبنانيين في الساحات بهذه القضية. تضامنت بيروت مع غزة في العدوان الإسرائيلي عليها في 14 تشرين الثاني والذي ذهب ضحيته 34 شهيداً. رُفع العلم الفلسطيني وهتفت الجماهير “شو ما يصير وشو ما صار.. منموت وتحيا غزة”. رسم المتظاهرون كلمة “غزة” بالشموع المضاءة تحيّة لأرواح شهداء الانتفاضة الفلسطينية التي لا تهدأ. كما حضرت الأغاني الثورية الفلسطينية بقوة في ساحتي الشهداء ورياض الصلح. أما الكوفية الفلسطينية فباتت جزءاً لا يتجزأ من “فولكلور” التظاهرات. كذلك تضامن المتظاهرون اللبنانيون مع الصحافي الفلسطيني معاذ عمارنة الذي فقد عينه اليسرى برصاص الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية. “هذا الاحتضان والوعي المستجد في الشارع اللبناني شجّع الشباب الفلسطيني على التواجد في الساحات”، وفق الناشط الفلسطيني وليد سليمان. ويقول: “في كل بلدان الشتات يُعرّف اللاجئ عن نفسه بالقول فلسطيني سوري أو فلسطيني أردني، أما في لبنان نقول فلسطيني من لبنان، فنظراً للتركيبة الطائفية المعقدة في هذا البلد وترسبات الحرب الأهلية التي لعب فيها الفلسطينيون دوراً بارزاً، لم يعد ممكناً تصنيف اللاجئ كشريك. إلا أن ثورة “17 تشرين” أعادت تعريف بعض المفاهيم، ولا سيما في ظل وجود صحوة حقيقية لدى الجيل الجديد من الشباب اللبناني”، مضيفاً أن “الفلسطينيين جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي اللبناني، وأي سلطة يُنتجها اللبنانيون ستؤثر علينا بنفس مقدار تأثيرها عليهم، خصوصاً أن الوضع الاقتصادي للعائلات الفلسطينية داخل المخيمات وصل إلى مستويات خطيرة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية العامة في لبنان التي تترافق مع تقلص خدمات منظمة “الأونروا” التي باتت مجرد شبح يمنّ على العائلات الفلسطينية بالفتات”.

هذا الشاب فلسطيني

 

سليمان ناشط “عتيق”، تعرفه الساحات ويعرفها. يشارك في التظاهرات اللبنانية المطالبة بإسقاط النظام الطائفي منذ العام 2012، كما كان حاضراً في الساحات خلال حراك العام 2015 عقب أزمة النفايات التي “طمرت” البلاد. لكنه في هذه الأيام من الانتفاضة لم “ينزح” إلى بيروت، بل بقي في صيدا، مدينته. أمس الأول، بعدما أعلنت محطات الوقود إضرابها وعدم قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين، كان سليمان أول من توجه إلى تقاطع إيليا وأطفأ محرك سيارته التي كانت على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب خلوها من البنزين. ترجّل منها وجلس على سطحها معتصماً. وتضامناً معه ركن عدد من الناشطين أيضاً سياراتهم في المكان. على الفور حضرت القوى الأمنية. بعدما حصل الدركي على هويته، قال للضابط: إن “هذا الشاب فلسطيني”. وما كاد ينهي جملته حتى رد المحتشدون “إيه وإذا فلسطيني.. هودي منّا وفينا”. يُعقّب سليمان على الحادثة بالقول: “لم تعد كلمة “فلسطيني” تُهمةً، وهذا أبرز ما أنتجه الحراك اللبناني بعدما بات واضحاً التغيّر في المزاج الشعبي العام للبنانيين”.

 

وفي أواخر شهر أيلول من العام الحالي، تظاهر مئات الأشخاص، غالبيتهم من الفلسطينيين، في ساحة رياض الصلح مطالبين السفارات بفتح أبوابها لهم وقبول طلباتهم للهجرة. فهل بدّلت الثورة من رغبات هؤلاء؟ بحسب الناشط فؤاد منيمنة (26 عاماً) إن “الثورة اللبنانية شرّعت الباب أمامنا لتكون لنا أحلام جديدة، فبالرغم من أن هدفنا الأساسي تحرير فلسطين والعودة إلى الديار، إلا أنه في المدى المنظور علينا تأمين مستقبلنا كلاجئين، وربما تعطينا الثورة اللبنانية فرصة لتحسين ظروف اللجوء”.

 

الثورة والمقاومة:  “هلّأ لوين”؟

 

على الضفة الأخرى من الثورة، علت أصوات بين الحشود المتظاهرة مطالبة بحصر الشرعية بالجيش اللبناني وبناء دولة مدنية عادلة ونزع سلاح الميليشيات. تعززت تلك المطالب وترسخت أكثر مع تمادي سلطة “الأمر الواقع” في البلاد بالبطش بالمتظاهرين، لا سيما مع تكرار الأحداث المؤلمة التي وقعت في ساحة رياض الصلح في غير منطقة، وكان أبطالها مناصرو كل من “حزب الله” و”حركة أمل”، الذين اعتدوا على المتظاهرين بالضرب وسرقة أغراضهم وحرق خيمهم. فكيف يفسّر الفلسطينيون ولاءهم لـ”حزب الله” والمقاومة الهادفة إلى تحرير فلسطين وحضورهم في الانتفاضة اللبنانية في آن؟

 

انقسام الرأي الفلسطيني حيال الأمر كان جلياً. بحسب منيمنة إن “المطالب المطروحة في الساحة هي مطالب معيشية مطلبية محقة تُشكّل نواة الثورة. أما من جاء لرفع شعارات سياسية كانوا قلّة لا تُعبر عن رغبة جميع اللبنانيين”، مضيفاً أن “خيار المقاومة بالنسبة لنا كفلسطينيين ثابت ولا نقاش فيه”. كذلك جاء موقف وليد سليمان. بالنسبة إليه إن “شعار كلن يعني كلن فضفاض للغاية، وعلى الرغم من أننا نؤيد ضرورة محاسبة جميع الفاسدين، بصرف النظر عن الجهة السياسية التي ينتمون إليها، إلا أننا لا نقبل المسّ بخيار المقاومة الذي هو نهج وحق مكفول لنا طالما أننا واقعون تحت سلطة احتلال”. أما سامر (30 عاماً) فخالف صديقيه بالقول: “لو كان سلاح “حزب الله” موجهاً حصراً ضد العدو الإسرائيلي لكان استحق شعار المقاومة إلا أننا جميعنا نشهد على ما قام به في سوريا وفي لبنان على مدى سنوات من تجاوزات واستغلال لسلطة السلاح”.

لاجئون يطلبون اللجوء

 

على الرغم من أن مصير “لبنان الجديد” مجهول تماماً، إلا أن ما يحدث داخل المخيمات الفلسطينية وفي ساحات الثورة تعبير صارخ عن القهر والإقصاء والحصار الذي يعيشه هؤلاء، ورفض قاطع لكل السياسات الحكومية التي تعاملت مع اللجوء الفلسطيني كملف أمني فحسب. فهل من الممكن أن نشهد تحولاً في الخطاب الرسمي اللبناني تجاه هؤلاء في مرحلة ما بعد الثورة؟

المخيّمات وحلم الهجرة

 

يستضيف لبنان ما مجموعه 12 مخيماً و449,957 لاجئاً مسجلاً وفق وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). المخيمات، التي بُنيت بشكلٍ منهجي، في مراحل مختلفة من الزمن، هي كالآتي: مخيم البداوي (أسس عام 1955، ويستضيف أكثر من 16,500 لاجئ مسجل)، ومخيم برج البراجنة (أسس عام 1948، ويستضيف أكثر من 17,945 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم البرج الشمالي (أسس عام 1955، ويستضيف أكثر من 22,789 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم ضبية (أسس عام 1956، ويستضيف أكثر من 4,351 لاجئ مسجل)، ومخيم عين الحلوة (أسس عام 1948، ويستضيف أكثر من 54,116 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم البص (يُستخدم منذ عام 1939، ويستضيف الفلسطينيين منذ عام 1948 مع وجود أكثر من 11,254 لاجئاً مسجلاً اليوم)، ومخيم مار إلياس (أسس عام 1952، ويستضيف حوالى 662 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم المية مية (أسس عام 1954، ويستضيف أكثر من 5,250 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم نهر البارد (أسس عام 1949، ومنذ يناير 2014، يستضيف 1,321 أسرة، أي 5,857 نسمة)، ومخيم الرشيدية (أسس عام 1963، ويستضيف أكثر من 31,478 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم شاتيلا (أسس عام 1949، ويستضيف أكثر من 9,842 لاجئاً مسجلاً)، ومخيم الويفل (أسس عام 1952، ويستضيف حوالى 8,806 لاجئين مسجلين).