تزداد قناعة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يوماً بعد آخر، بأنّ قرار بعض الدول المانحة تعليق مساعداتها المالية لوكالة «الأونروا» ليس وليد الساعة أو مرتبطاً باتهام إسرائيل 12 موظفاً بالمشاركة أو تأييد عملية «طوفان الأقصى»، التي نفذتها حركة «حماس» في 7 تشرين الأول 2023، وإنما يأتي استكمالاً لمشروع إسرائيلي قديم – جديد، يقوم على محاولات إنهاء عملها في إطار سعيها الحثيث لتصفية القضية الفلسطينية وشطب حق العودة.
و»الأونروا» التي تأسست في العام 1949 وفق القرار 302، وفوّضتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بمهمة تقديم المساعدة الإنسانية والحماية للاجئي فلسطين المسجّلين في مناطق عملياتها التي تشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقطاع غزة، والأردن، وسوريا ولبنان، إلى أن يتم التوصل إلى حل عادل ودائم لمحنتهم، هي بعيون اللاجئين في لبنان، الشاهد الحيّ على نكبتهم ولجوئهم وحقهم بالعودة لذلك يتمسكون بها رغم خدماتها الشحيحة.
في السياق التاريخي، بعد توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، بدأت «الأونروا» تئنّ من العجز المالي، فتولّد الشعور الفلسطيني حينها بأنّ الهدف من محاصرتها مالياً هو إضعافها كي تقوم الدول المضيفة بتولي مهمة تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين، وصولاً إلى دمجهم بالمجتمع المحلي بما يعني توطينهم، وهو الأمر الذي يرفضه الفلسطينيون واللبنانيون معاً.
ويروي مسؤول فلسطيني تفاصيل تلك المرحلة ويقول لـ»نداء الوطن»: «منذ سنوات، مرّت «الأونروا» بقطوع مالي جراء عجز الموازنة المالية، تراجعت الخدمات وتقلّصت التقديمات إلى حدّها الأدنى وتمّ إلغاء المساعدات التموينية واستبدلت بالمالية لحالات الفقر الشديد، حيث لم يعد يستفيد منها كل اللاجئين، فيما انخفضت نسبة المعالجة الصحية كثيراً».
في العام 2016، حاولت «الأونروا» تقليص خدماتها، فاندلعت انتفاضة سياسية وشعبية فلسطينية في مخيمات لبنان غير مسبوقة استمرت نحو ستة أشهر وأجبرت إدارة «الأونروا» في نهاية المطاف على عدم تنفيذ قراراتها، مع زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مخيم نهر البارد ومعاينة مأساة اللجوء ونقل المدير العام آنذاك ماتياس شمالي.
ويضيف المسؤول الفلسطيني «كل ذلك كان يترافق مع طرح مخططات ومشاريع علنية وخفية لتوطين اللاجئين في الدول المضيفة وتحديداً في لبنان، وما زالت مقولة رئيس مجلس النواب نبيه بري الشهيرة في تسعينات القرن الماضي تتردّد في أروقة المخيمات كافة، بأن كندا تعمل من فوق الطاولة وتحتها لتوطين الفلسطينيين في لبنان، وهذه حال كثير من الدول التي طرحت الأمر سرّاً وعلانية».
غير أن القنبلة الكبرى جاءت في العام 2018، في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي قرّر وقف تمويل الوكالة لأسباب سياسية تتعلق بصفقة القرن التي أطلقها وأراد من خلالها تقليص أعداد اللاجئين، من خلال إسقاط صفة اللجوء عن الذين ولدوا خارج فلسطين، فيما غالبية كبار السن الذين هجروا من أرضهم قد رحلوا، مما يسهل توطينهم في الدول التي تستضيفهم مقابل مساعدات مالية مغرية.
وبعد العام 2019، ونتيجة تقارير لمنظمات صهيونية، علّقت سويسرا وهولندا وبلجيكا ودول أخرى مساهماتها المالية بذريعة وجود فساد في الوكالة والزعم أنّ مناهجها تحرّض على العنف والكراهية، قبل أن تستأنف التمويل بعد تأكيدات الأمين العام للأمم المتحدة بعدم وجود فساد، وعدم صحة اتهامات إسرائيل.
وفي العام 2022، وفي خضم الأزمة المعيشية والاقتصادية اللبنانية الخانقة وتداعياتها على الفلسطينيين في لبنان بشكل مضاعف، اتخذت «الأونروا» قرارين مجحفين في تقليص الخدمات، الأول: عدم تغطية الاستشفاء للاجئي فلسطين الذين يحملون الجنسية اللبنانية وتتم تغطيته من وزارة الصحة اللبنانيّة، والثاني إيقاف تسجيل النازحين الفلسطينيين القادمين من سوريا إلى لبنان، ضمن برنامج مساعداتها المالية الدورية بسبب نقص التمويل لديها.
اليوم، تتكرر المحاولة تحت ذريعة مشاركة أو تأييد 12 موظفاً في عملية «طوفان الأقصى»، واللافت فيها أن 16 دولة قرّرت تعليق المساعدات سريعاً ومن دون الإنتهاء من التحقيق الداخلي ورغم إعلان المفوض العام فيليب لازاريني أولاً إنهاء عقودهم ثم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إنهاء خدمة 9 منهم بهدف قطع الطريق على المزيد من قرارات الدول وقف التمويل موقتاً.
لكن الأخطر في محاولة اليوم يكمن في عدم اكتفاء إسرائيل باتهام 12 موظفاً بل وسّعت من نطاق حملتها الممنهجة ضد «الأونروا» واتهامها بأنها سمحت لحركة «حماس» باستخدام بناها التحتية في قطاع غزة في أعمال عسكرية، وصولاً إلى وصفها بأنها واجهة للحركة و»ليست منظمة محايدة». وتعهّدها بوقف عملها في غزة بعد انتهاء الحرب.
بالمقابل، تؤكد مصادر حقوقية فلسطينية لـ»نداء الوطن» أن إلغاء «الأونروا» لا يمكن أن يتم إلا عبر قرار مماثل من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالتالي فإن تعليق المساعدات المالية هو لممارسة الضغط على الوكالة من جهة والقوى السياسية والشعب الفلسطيني من جهة أخرى، لتنفيذ مطالب إسرائيل في حربها الممنهجة على غزة، وصولاً إلى إضعافها مالياً لإخضاعها سياسياً.
ويعتبر مدير هيئة 302 للدفاع عن حق العودة علي هويدي أن»من أهداف تعليق المساعدات المالية استغلال وابتزاز المزيد من المواقف الداعمة للاحتلال الإسرائيلي من «الأونروا» مقابل التمويل، وهو ما تحدثت عنه صراحة مندوبة أميركا في الأمم المتحدة. متسائلاً «كيف لهذه الدول أن تأخذ مثل هذا القرار ولم ينته التحقيق الداخلي بعد، وكيف تقبل بالعقاب الجماعي الذي يتزامن مع الإبادة في غزة؟».
ويقول مسؤول دائرة وكالة الغوث في «الجبهة الديمقراطية» فتحي كليب: «لسنا بحاجة لشواهد ونماذج كي نقنع من لا يريد أن يقتنع بأن ما يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون هو جزء من حرب تجويع شاملة وسياسة ابتزاز استعمارية تشنّ عليهم من قبل الثنائي الأميركي الإسرائيلي، وبالشراكة مع بعض الدول المانحة لم تعد ترى في وكالة الغوث عامل أمن واستقرار لها، إذن هي ليست حرباً على وكالة الغوث فقط، بل على اللاجئين والفلسطينيين».