شهد العقل السياسي لقيادة فصائل المقاومة الفلسطينية تطوراً كبيراً خلال الأشهر الماضية. والحديث عن أنماط مختلفة من التفكير تقود إلى تباينات، لم يعد له مكانه في النقاش حول كيفية التعامل مع ملف الحرب، ذلك أن عنصرين بارزين حدّدا الإطار العام للتفكير وللمبادرات:الأول، يتعلق بإظهار قيادات الأجنحة العسكرية للمقاومة في غزة أنها قادرة ليس فقط على إدارة المعركة بعقل جيد، بل أثبتت للجميع، بمن فيهم القيادات السياسية، أنها أكثر جهوزية مما كانوا يعتقدون. فحتى مطلع السنة الجارية، كان لا يزال هناك من يسأل عن حقيقة الوضع على الأرض، ومدى واقعية الرسائل الواردة من الميدان. لكنّ التطورات حسمت الأمر نهائياً، ولم يعد ممكناً الفصل بين الجناحين العسكري والسياسي. وهو أمر لمسه الوسطاء من كل الأصناف، خصوصاً أن حجم الجريمة الإسرائيلية مهول إلى حدّ لا يمكن أحداً تحمّل مواجهته بصلابة تقلّ عن صلابة المقاتل في غزة.
الثاني، يتعلق بأن المستوى السياسي في فصائل المقاومة أكثر إدراكاً لحجم المؤامرة التي تشارك فيها كل شياطين الأرض ضد المقاومة، ويعرف الجميع أن المطلوب ليس تصفية الأداة العسكرية للمقاومة، بل الإطاحة بكل الأجسام اللصيقة لها، من الفكرة والشعار إلى القيادات السياسية والميدانية، وصولاً إلى الفرق الإغاثية التي اعتادت المقاومة على تعزيزها ربطاً بالحروب المفتوحة مع العدو. وهو ما جعل أحد أبرز قادة هذه الفصائل يقول: «لقد قرّر العدو، بموافقة كل العالم، أننا مجرد وحوش يجب الإجهاز علينا، والخلافات أو التباينات التي نراها في جبهة الأعداء تقتصر على كيفية التخلص منا. وما لمسناه في التفاوض الطويل والمحادثات الجانبية أنه لا يوجد أحد، لا في كيان الاحتلال ولا في الولايات المتحدة ولا في كل الغرب، من هو مستعد للتنازل لتلبية جزء من حقوق الشعب الفلسطيني. لذلك، أوضحنا للجميع أنه يجب التعامل معنا بواقعية شديدة. فنحن في قلب معركة مصيرية يُحسم أمرها في الميدان أولاً وأخيراً، وحجم التضحيات التي بُذلت تمنع على أحد منّا التفكير في أي تنازل».
وفق هذه القاعدة، تجري المفاوضات حول وقف الحرب في غزة. ولم تعد وتيرتها منفصلة عن تطورات الميدان. وإذا كان كثيرون قد اعتقدوا، في فترات سابقة، بأن المقاومة أقدمت على فعل كبير يصعب على العالم هضمه، فإن الجريمة التي يرتكبها العدو لا يمكن هضمها. وبالتالي، فإن استراتيجية العدو القائمة على أنه ضحية اعتداء ويجب مراعاته وتحقيق أمنه لم تعد موجودة على الطاولة، إلا في عقول الإسرائيليين. ويروي مشاركون في المفاوضات أن الجانب الأميركي نفسه غادر نهائياً مربّع الحديث عن الآثار المباشرة لعملية 7 أكتوبر. ويقول هؤلاء: «ليست صدفة أن كل عضو في الوفود الوسيطة، أو حتى من أطراف جانبية، يلوذ بصمت مطبق عندما نضع أمامه صور جرائم العدو».
عملياً، غادر المفاوض الفلسطيني مربّع الدفاع الدائم، وانتقل إلى الهجوم العاقل. وهو هجوم يستند ليس فقط إلى حجم جريمة العدو، بل إلى قدرة المقاومة على الصمود. والأهم أن المقاومين، كما قيادتهم السياسية وشعبهم، صاروا يشعرون أنهم ليسوا وحدهم في المعركة. فإلى جانب ثبات جبهات الإسناد العسكرية وتعاظم فعاليتها، خصوصاً في لبنان واليمن، لم يعد الرأي العام العالمي أسيراً لفكرة اليهود المساكين الذين يحتاجون إلى دعم طوال الوقت.
ويقول زوار للعاصمة الأميركية إن المناقشات في مكاتب المسؤولين لم تصل إلى البحث عن أثمان تُدفع للفلسطينيين، لكنّ المؤكد أن هؤلاء باتوا يشعرون بصعوبة تقديم دعم إضافي لدولة الاحتلال. حتى إن أكثر المسؤولين الأميركيين تأييداً لإسرائيل أصبحوا يصبغون مواقفهم بانتقاد أداء سياسة حكومة بنيامين نتنياهو. ويُنقل عن جنرالات في الجيش الأميركي أن جيش إسرائيل لم يعد جيشاً محترفاً كما عرفه العالم، بل أصبح مجرد آلة للقتل عاجزة عن إنجاز أي أهداف عسكرية موضعية. وهذه حقيقة أدركها المقاتل الفلسطيني، ما جعله أكثر قدرة على المناورة، وأكثر قناعة بقدرته على هزيمة إسرائيل.
لا أولوية تتقدّم على وقف الحرب وإغاثة الناس ولا خطاب استجداء لأحد وإسرائيل لم تعد الضحية
اليوم، تقف المفاوضات عند الحاجز نفسه الذي نصبه الاحتلال منذ اليوم الأول، حيث الاعتقاد بأن إسرائيل قادرة على تحطيم المقاومة عسكرياً، وتدمير بنيتها المدنية، وإجبار الفلسطينيين أولاً، والعالم ثانياً، على خلق سلطة بديلة تدير الوضع في غزة. وعندما يجري الحديث عن تعثّر في المفاوضات أو تعطّل أو توقّف أو غيرها من التسميات، فإن السبب الفعلي هو رفض العدو فكرة إنهاء الحرب والانسحاب الكامل من القطاع والالتزام بوقف كل نشاط عسكري. وضوح هذه الفكرة في خطاب العدو وأدائه، يسهّل فهم أن حكومة العدو لا تهتم لأمر الأسرى، وترى اأ مجتمعها مستعدّ للتضحية بمزيد من الجنود والأسرى، وتراهن على استمرار حالة الاستنفار لأطول فترة ممكنة، عسى أن يحقق جيشها نجاحات في الميدان تُبنى عليها نتائج في السياسة.
ولأن فكرة العدو وأهدافه واضحة جداً، يتصرّف العقل السياسي الفلسطيني على هذا الأساس. فيصبح مطلب وقف الحرب بصورة شاملة هدفاً أولَ لا يتقدم عليه هدف، تليه إغاثة أهالي القطاع، ومن ثم، في مرتبة متأخرة، ملف الأسرى والوضع السياسي للجبهة الفلسطينية. ولا يوجد في عقل قيادة المقاومة الفلسطينية اليوم، من هو مستعدّ لأي مقايضة قبل وقف الحرب: لا مقايضة في ملف الأسرى، ولا على طريقة إدارة القطاع، ولا نقاش أصلاً حول ما يسميه العدو والعالم «اليوم التالي»، لأن هذه فكرة من يقود الحرب ويوسّعها، ولا تشغل بال الضحية الحقيقية، شعب فلسطين.
في هذه المرحلة، بات هامش المناورة واسعاً أمام المفاوض الفلسطيني نتيجة أعلى مستوى من التوحّد داخل الفصائل نفسها، وتعاون وثيق في الميدان… وبالنسبة إلى هؤلاء، المسألة مسألة صبر وصمود فقط.