إلى ما رافق صدور القرار 2728 الصادر عن مجلس الأمن لوقف النار الفوري والإفراج عن الرهائن والمعتقلين في غزة والسجون الاسرائيلية، ومعه المساعي المبذولة للجم تردداتها المتفاقمة، تتجّه الأنظار الى الحراك الديبلوماسي الذي أطلقته مجموعة من دول اوروبا واميركا اللاتينية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، على اساس انّها من الخطوات الاولى التي تؤسس لسلام دائم وشامل وعادل يُنهي الحروب في المنطقة. وعليه كيف سيكون ردّ فعل اسرائيل في ضوء رفضها معظم القرارات الدولية؟
عند البحث في الظروف التي رافقت وتلت صدور القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي الرقم 2728 وما طالب به من «وقف فوري لإطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان الحالي والإفراج الفوري وغير المشروط عن الرهائن، والحاجة الملحّة لتوسيع تدفق المساعدات الى غزة»، بما يؤدي إلى «وقف مستدام لإطلاق النار»، لا يمكن تجاهل التطور الذي تحقّق على مستوى الموقف الاميركي الذي انتقل من مرحلة الرفض الى مرحلة القبول بما قال به القرار. وهي سياسة سلبية اعتُمدت أكثر من مرة عند طرح مشاريع القرارات لوقف الحرب في غزة التي حاول مجلس الأمن إصدارها منذ فترة طويلة. وقد اسقطهتا الفيتوات المتبادلة عندما لجأت إليها واشنطن ثلاث مرات وكل من روسيا والصين مرتين.
وإن كان المقال لا يتسع للأسباب التي دفعت الى تعطيل هذا المسار الذي بُني عليه الكثير لوقف المجازر المرتكبة في غزة، وما يجري في جنوب لبنان واليمن والبحر والاحمر، عدا عن مساحة التوتر التي توسعت، حيث تنتشر القواعد الاميركية على الساحتين العراقية والسورية، فقد كانت واضحة الدوافع التي أدّت الى تعطيله، عندما لم تتوافق إرادات الدول الكبرى على الصيغ التي طُرحت، والتي تضمنت في شكلها ومضمونها وتوقيتها ما يكفي لتبادل حق النقض، بعدما انحصر النقاش في مسلسل مشاريع الاقتراحات البرازيلية والفرنسية والإماراتية والاميركية بين وقف نار «دائم» او «موقت» او «متمدّد»، بعدما توقف الحديث عن مسلسل «الهدن الإنسانية»، واقتصرت التجربة الخماسية التي تمّ اعتمادها لتبادل الأسرى لدى «حماس» من حاملي الجنسيتين بالمعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية.
وكل ذلك جرى من دون النظر الى النتائج المترتبة على ما تسبّبت به هذه الحرب من تمديد المهل امام اسرائيل للقضاء على حركة «حماس»، وهو ما أدّى بعد تعثرها الى تحولات في المواقف الدولية التي بدأت تفتقد فيها عدداً من حلفائها ومناصريها، على رغم من الفوارق بين ردات فعل بعض الشعوب الاوروبية والغربية وفي الأميركيتين الشمالية والجنوبية اللاتينية وحكوماتها.
ليس في كل ما سبق ما يثير الاستغراب، فقد شهد التاريخ تجارب مماثلة منذ قيام الدولة الاسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضاربةً عرض الحائط بعشرات القرارات الدولية التي حاولت وضع حدّ لجرائمها. وهو ما أشارت إليه مراجع ديبلوماسية وضعت إحصاءً دقيقاً بالقرارات التي تجاهلتها اسرائيل منذ قيامها، وقد توزعت على الشكل الآتي:
-55 قراراً صادراً عن مجلس الأمن الدولي منذ ما سُمّي «النكبة» في تواريخ متفرقة بين تاريخ صدور القرار الرقم 56 لعام 1948 والذي نظر فيه المجلس في «وضع القدس»، والذي طلب فيه من الوسيط الدولي إخلاء القدس من السلاح لحمايتها من الدمار. وصولاً الى القرار الرقم 2712 الذي صدر في 15 تشرين الثاني 2023، والذي طلب فيه المجلس من جميع الأطراف منذ عملية «طوفان الأقصى»، الالتزام بالقانون الدولي في ما يخص حماية المدنيين والأطفال، ودعا إلى هدنة وفتح ممرات إنسانية عاجلة في القطاع لعدد كافٍ من الأيام.
-17 قراراً صادراً عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وهي تُحصى منذ صدور القرار الرقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني عام 1947، والذي يُعرف الى اليوم بـ «قانون التقسيم»، حيث أقرّ تقسيم الأرض الفلسطينية إلى دولة عربية ودولة يهودية، مع وضع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية. وصولاً الى القرار 19 /10 لعام 2017، والذي يتعلّق بوضع القدس كمدينة لها حصانتها الدولية وقد تمّ تبنّيه خلال الجلسة الخاصة الطارئة الرقم 10 للجمعية العمومية للأمم المتحدة عندما صوّتت الى جانبه 128 دولة لمصلحة القرار فيما عارضته 9 دول وامتنعت 35 دولة وتغيّبت 21 دولة.
-14 قراراً صادراً عن منظمة «اليونسكو» ابتداءً من العام 1956، وهو القرار الأول الذي تناول أوضاع مدينة القدس المميزة ، بعد نحو 8 سنوات من ضمّ إسرائيل للشطر الغربي منها. ونص القرار يومها على اتخاذ كل التدابير من أجل حماية الممتلكات الثقافية في المدينة في حال النزاع المسلح. علماً انّ قرارات «اليونسكو» تعلّقت في معظمها بالمواقع الدينية والثقافية والمسجد الأقصى، وكان آخرها القرار الصادر عام 2017 عندما صوّت المجلس التنفيذي لمنظمة «اليونسكو» على قرار يؤكّد قراراتها السابقة باعتبار إسرائيل محتلة للقدس، ويرفض سيادتها على المدينة المقدسة.
لم يكن التوقف امام هذه القرارات وطريقة تعاطي اسرائيل معها لتبرير موقفها من القرار 2728 الخاص بوقف النار. فدونه استغراب المستغربين لرفض إسرائيل تنفيذه. ذلك انّ هناك عشرات القرارات التي رافقت الحروب العربية ـ الاسرائيلية ومع لبنان تحديداً، وخصوصاً تلك التي صدرت بعد حروب العام 1982 والعام 96 وحرب تموز 2006، والتي انتهت بصدور القرار 1701 الخاص بوقف الاعمال الحربية وتلته قرارات اخرى قالت بتعويضات على اسرائيل دفعها للبنان تعويضاً عن أضرار بيئية مختلفة تلت الحرب ومنها التلوث في منطقة الزهراني.
على هذه القاعدة من الشذوذ الاسرائيلي في التعاطي الدولي معها يأتي النظر اليوم الى التهديدات التي أطلقتها دول أوروبية ومن أميركا اللاتينية التي تلت الدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا ضدّها أمام محكمة العدل الدولية في 29 كانون الأول العام 2023، والتي اتهمت فيها اسرائيل بارتكاب جرائم «إبادة جماعية» ضدّ الشعب الفلسطيني، وهي ما زالت قائمة وفق المراحل القانونية المعترف بها بعد ان صدر في 26 كانون الأول الماضي «حكم ابتدائي» اقرّ تدابير طارئة بحق إسرائيل، لم تتردّد تل ابيب في رفضها ومعها دول كبرى قالت بعدم إلزامية ما قالت به.
عند هذه المحطات، تترقّب المراجع الديبلوماسية باهتمام بالغ الإجراءات التي بدأها بعض الدول بإمكان الاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد، كإجراء يهدّد بإمكان معاقبة اسرائيل على جرائمها، وهي خطوات بدأتها إسبانيا بإعلانها يوم الجمعة الماضي انّها تنسق مع كل من دول ايرلندا ومالطا وسلوفينيا لاتخاذ الخطوات الأولى نحو الاعتراف بالدولة التي أُعلن عنها بموجب اتفاقية أوسلو عام 1993 والتي تكونت في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ ذلك الوقت، والتي تحتلها إسرائيل كلياً في قطاع غزة والاحتلال المبطن للضفة وتقطيع أوصالها بمئات المناطق العسكرية والحواجز، عدا عن المستوطنات التي زرعتها فيها وآخرها إصدار قرار في نهاية العام الماضي بإحداث 8000 وحدة سكنية فيها تؤدي الى مصادرة أراضٍ قرى عربية فلسطينية كانت بمنأى عن خطط الاستيطان.
وختاماً، لا تخفي المراجع الديبلوماسية اهمية مثل هذا التوجّه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. فالاعتراف بإسرائيل عند قيامها انطلق باعترافات مماثلة متفرقة، ولم يكن شاملاً على الساحة الدولية، وهو أمر يستحق ان يُبذل جهد عربي لهذه الغاية لأنّه سيكون محطة لإثبات جدّية ادارة بايدن بـ «حل الدولتين»، طالما انّ الخطوة كانت من ضمن برنامجه الانتخابي الذي اوصله الى البيت الأبيض قبل ثلاث سنوات.