حرصت قيادة «حزب الله» على تغطية عملية إطلاق الصواريخ الأخيرة من جنوب لبنان من خلال تصريحات مسؤولين فيه، على رأسهم أمينه العام حسن نصرالله ورئيس مجلسه التنفيذي هاشم صفيّ الدين، بالتوازي مع إطلاق حملة إعلامية محمومة تربط بين «إنقاذ» المسجد الأقصى وأهمّية الصواريخ «الجنوبية»، وأنّها جاءت استجابة لصرخات المصلّين والمعتكفين في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين عند المسلمين في وجه القمع الإسرائيلي المتمادي ضدّهم.
كان من مميّزات هذه الحملة التي أغرقت وسائل التواصل الاجتماعي الترويج لاعتبار العمل الفلسطيني المسلّح من الجنوب أمراً «طبيعياً» في ظلّ الهمجية الإسرائيلية، ودارت نقاشات واسعة في أوساط الحركات الإسلامية تضمّنت الدعوة إلى تغطية أيّ تحرّك فلسطيني مسلّح ضدّ الكيان الإسرائيلي، وخاصة إذا كانت حركة «حماس» هي التي تقوم به في إطار إضعاف القدرة الإسرائيلية على الردع وتوسيع الجبهات ضدّ تل أبيب.
خطورة هذا النقاش أنّه خلق أرضية في الشارع السنّي تناست كلّ كوارث السلاح الفلسطيني في سنوات الحرب الأهلية، وباتت تعتبر أنّ استبدال «حماس» بمنظّمة التحرير كافٍ للوصول إلى نتائج مختلفة، في تجاهلٍ واضح لحقيقة أنّ الإمرة على سلاح «حماس» وغيرها في الجنوب هي لـ»حزب الله» بشكل مباشر، فضلاً عن الهيمنة الإيرانية على القرار الاستراتيجي للحركة في الداخل الفلسطيني، وهذا ينطبق أكثر على حركة «الجهاد الإسلامي» والمنظّمات الأقلّ شأناً.
هل يمكن فصل الإمرة والسيطرة على القرار في الجنوب عن مقاصد «حزب الله» واحتياجاته، وخاصة بعد تعرّضه للإذلال في سوريا بشكل مبالَغٍ فيه في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وفي ضوء تحوّلات الإقليم مع المضيّ في تطبيق الاتفاق السعودي ـ الإيراني ـ الصيني؟
واقع الحال أنّ الفلسطينيين في لبنان تحوّلوا «بنك أهداف» كاد أن يدخل دائرة الاستهداف لولا الانقسام في مواقع القرار الإسرائيلية، بينما جلس «حزب الله» على مقاعد المتفرّجين وهو يراقب كيف استطاع خلط الأوراق وإثارة الجدل وإحياء أجواء التطبيع مع عودة السلاح الفلسطيني لدى شريحة سنّية تأثّرت بالدعاية المفخّخة الدامجة بين التعاطف مع الحقّ الفلسطيني وبين مسألة التسلّح في لبنان.
لم يكتفِ «حزب الله» بهذه الدعاية، بل إنّه دفع بدعاية لا تقلّ خطورة ومكراً عن الأولى، وهي أنّه استحضر مواد إعلامية قديمة من زمن الحرب الغابرة والاجتياح الإسرائيلي ونبش تصريحات لأشخاص أصبحوا تحت التراب، يشيدون بالغزو الإسرائيلي، وهم قلّة نادرة، وأفراد منفلتون فاقدون للتوازن يطلقون كلاماً غير مسؤول، حيث عملت الآلة الإعلامية الممانِعة على تصوير المسيحيين على أنّهم كانوا عملاء للصهاينة، وأنّهم مستمرّون في ذلك حتى الآن.
أعاد إعلام الممانعة، في خطّة مُحكمة، إنتاج صورة الفلسطيني المظلوم لتبرير تسليحه من جديد، وصورة «المسيحي العميل» لتبرير تخطّي الموقف المسيحي الرافض للسلاح الفلسطيني، وهذا يعطي إشارة خطرة إلى أنّ المسألة لم تنقضِ بإطلاق الصواريخ الأخيرة، بل إنّ هناك مساراً يجري التمهيد له من خلال هذا السياق الإعلامي والسياسي الذي يحمل مخاطر إعادة الصراع الداخلي بإخراج سلاح بعض الفلسطينيين من المخيمات إلى خارجها.
وهنا لا يمكن تجاوز البدعة التي أفتى فيها جبران باسيل بقوله إنّ السلاح اللبناني مقبول، بينما السلاح الفلسطيني مرفوض، في «نتعة» ذات طابع عنصريّ غير منطلِقة من موقف سيادي، لأنّ كلّ السلاح غير الشرعي ينبغي أن يكون مرفوضاً، وهذا يؤكّد أنّ «حبل السرّة» بينه وبين «حزب الله» لم ينقطع في المدى الاستراتيجي، بينما يستفيد باسيل من هذه المشاحنات لاستعادة توازنه في الشارع المسيحي.
في المقابل، كان لافتاً موقف رئيس حزب «القوات اللبنانية» الذي أدان تواطؤ «حزب الله» في تأمين إطلاق الصواريخ «المجهولة المعلومة المصدر» مع تخصيصه جزءاً أساساً من كلمته في الإفطار الرمضاني القواتي للتجاوزات الإسرائيلية «غير المقبولة وغير المعقولة» في المسجد الأقصى بقداسته المعلومة عند المسلمين، ودعوته «جامعةَ الدُّوَلِ العربيّةِ بالدّرَجَةِ الأولى، كما مجلِسَ الأمنِ الدَّوْلِيِّ، الى اتِّخاذِ المواقِفِ والتدابيرِ والخَطَواتِ اللازِمة لإِحقاقِ الحقِّ وإِلاّ سَتَعُمُّ الفوضى، حيثما كان، وليسَ في القُدسِ وحدَها، ولن يبقى للمُقَدَّساتِ حُرمَةٌ ولا للقوانينِ التزام، بل سيتحوَّلُ العالَمُ مكاناً مُستَباحاً تسودُهُ شريعةُ الغاب».
ما يحصل اليوم هو جولة جديدة من صناعة التخوين وتزوير الوقائع والحقائق تهدف إلى اعتبار القضية الفلسطينية خارج نطاق الاتفاق السعودي ـ الإيراني ومسرحاً مباحاً للعبث فيها لصالح السياسات الإيرانية، ولبنان مسرحها المفتوح والمحتلّ والمهدَّد بأن يكون ضحيّة الاستفراد الإيراني المصمِّم على اعتباره «جائزة ترضية» في زمن التحوّلات الكبرى.