لطالما شكّل السلاح الفلسطيني في لبنان إشكاليةً ذات أبعاد سيادية وأمنية واجتماعية وكان له وقعٌ ثقيل باعتباره أحد عوامل الحرب الأهلية وما تركته من آثار وجراحات عانى منها الشعبان اللبناني والفلسطيني، لكنّها تراجعت بعد وقف الحرب وانحسر السلاح إلى المخيمات وقواعد قوسايا والناعمة، ليبقى النقاش حول جدوى احتفاظ المنظمات الفلسطينية بسلاحها بعد هذا المسار الطويل والشائك من الجوار الصعب الذي يختلط فيه الجانب الإنساني والأخلاقي بالانتماء العربي ومكانة القضية الفلسطينية، لكنّه يصطدم بتجربة العبور إلى القدس من جونية وغيرها من التحديات.
أجرت حركة «فتح» مراجعة سياسية لمراحل العمل الفلسطيني في لبنان وخرجت بنتيجة واحدة هي الالتزام بالشرعية اللبنانية والتخلي عن العمل المسلح انطلاقاً من الأراضي اللبناني كما نصّ على ذلك اتفاق القاهرة المشؤوم، وتحييد المخيمات الفلسطينية عن الصراع السياسي الداخلي، لكنّ محور الممانعة أعاد تسميم هذه المعادلة من خلال عبثه بالساحة الفلسطينية واستحواذه على منظّمات وواجهات انحرفت عن هذا التوجّه وتحوّلت خصماً عنيفاً لحركة فتح، التي تعرّضت وتتعرّض لعملية تخوين منهجية كونها تمثل العمود الفقري للسلطة الفلسطينية.
في موضوع السلاح الفلسطيني أيضاً، لا يمكن تجاهل وجود قواعد عاصية ومستعصية على الدولة اللبنانية لما يسمى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في تلال الناعمة وفي قوسايا بقاعاً، وهي قواعد آلت بالوراثة من النظام السوري إلى «حزب الله» وتحوّلت إلى مراكز لرفد أنشطته الأمنية والعسكرية، من دون أن ننسى إساءة الجوار ممن يحتلون هذه المواقع الخارجة عن سيطرة الدولة.
أمّا السلاح في المخيمات الفلسطينية فإنّ مخاطره الحقيقية هي على أهل هذه المخيمات. ذلك أنّه منذ إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان على يدي الجيشين الإسرائيلي والسوري بالتقاطع والتكامل، لم يُستَعمل هذا السلاح ضدّ «إسرائيل» أبداً، لا بل إنّه أنتج نتوءات خطرة كما حصل في صدامات عين الحلوة خلال سنوات التسعينات، والأخطر ظاهرة تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي الذي لبس لبوس منظمة «فتح الانتفاضة» ونزل في مراكزها واستخدم بناها الأساسية ليخوض أشرس المعارك ضدّ الجيش اللبناني تاركاً جراحاً غائرة مع الجوار.
كانت نتائج المواجهة مع تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي كارثية فهي لم تقتصر على تدمير مخيم نهر البارد (قسم منه لم تصله إعادة الإعمار) كما أنّها تركت شرخاً وجراحاً بين المخيم والجوار لأنّ أغلب شهداء الجيش اللبناني سقطوا من عكار والمنية وهذا الجرح استلزم سنوات ليتمكن أبناء الجوار من تجاوزه، لذلك، ثمّة حاجة إلى الاعتراف بأنّ السلاح في المخيمات لا يجري استعماله إلّا في الصراعات الداخلية بين الفصائل، أو في مواجهة الجوار اللبناني وليس له أيّ دورٍ في الصراع مع إسرائيل، وينبغي لهذه الحقيقة أن تحمل ترجمة سياسية وأمنية بإسقاط الحظر على النقاش في مصير سلاح المخيمات.
لم يحمِ هذا السلاح المخيمات الفلسطينية من أيّ مخاطر لكنّ محور الممانعة الذي سبق أن اعتبر مخيم نهر البارد «خطاً أحمر» يقوم بتعزيز فكرة احتفاظ الفلسطينيين بالسلاح ليس حباً بهم، بل حرصاً منه على استمرار حالة الصراع والتخبّط الداخلية ليقول للجميع إنّ سحب سلاح المخيمات مستحيل وسيؤدي إلى حرب ثقيلة، فكيف سيكون الحال إذا جرت المطالبة بسلاح «الحزب»؟
راكم «حزب الله» في استغلال القضية الفلسطينية وتمكّن من ردم الذاكرة الجماعية للشعبين الفلسطيني واللبناني حول ارتكابات حصار المخيمات التي فاقت بهولها أعداد ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا لتبقى الأخيرة حاضرة وكأنّ أسباب حرب المخيمات قد زالت.
أعتقد أنّ الخطر الاستراتيجي بالنسبة للثنائي الشيعي يشمل بشكل خاص مخيمات بيروت والجنوب حيث هناك أعداد كبيرة من المقاتلين المحترفين الذين يمكن إذا حصلت تطورات فاصلة أن يفعلوا كما فعل فلسطينيو مخيم اليرموك عندما ساندوا الثورة السورية، وهذا كابوس مقلق لـ»الحزب» بشكل خاص… فعندما تنقلب المصالح وتدور الأيام وينكشف زيف الشعارات يمكن أن تعود المخاطر التي سادت في ثمانينات القرن الماضي هي ذاتها، خاصة أنّ التنكيل الذي ألحقها محور الممانعة بفصائل منظمة التحرير الفلسطينية تكاد تتفوق على تنكيل العدو الإسرائيلي بحركة فتح والفصائل المتحالفة معها.
خلاصة القول في هذا العنوان أنّ الرأي العام الفلسطيني قبل اللبناني ينبغي أن يعيد النظر في مسألة السلاح لأنّه يبدو أنّه سيكون المقتلة المقبلة للأبرياء وميدان المتاجرة للمنخرطين في مشروع تقويض الشرعية الفلسطينية، وتحويل المخيمات في لبنان إلى مساحات خارجة على القانون يسهل ضربها مِنْ كلّ مَنْ يريد أن «يَبلَّ يدَه» بالشعب الفلسطيني.