يقف مقاتلون من «الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة» على طول 14 كلم من جرود السلسلة الشرقية في قوسايا. يديرون ظهورهم للبنان وعيونهم على مسلحي «النصرة» وغيرهم في الزبداني، لمنعهم من التسلل إلى البقاع الأوسط. هنا، في قوسايا، بات «السلاح الفلسطيني خارج المخيمات» إحدى أبرز أدوات الدفاع عن قرى شرق زحلة
الجولة مع العقيد عمّار في مواقع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـــ القيادة العامة» في جرود قوسايا، فوق سلسلة جبال لبنان الشرقية، تحتاج إلى ما لا يقلّ عن ساعة ونصف ساعة. يستلّ الأربعيني ابن عكّا، علبة سجائره وجهازاً لاسلكياً وبندقية، وآخر شفة من قهوة الصباح المتأخر، لتكون الرحلة قد بدأت بين مواقع الجبهة وكمائنها في محاذاة الخطّ الحدودي بين لبنان وسوريا، الّذي رَسَّمَته على شكل ساتر ترابي بسيط، مفاعيل ما بعد الخروج السوري من لبنان.
تشرف مواقع «القيادة العامة» على 14 كلم أو أكثر بقليل من الأراضي اللبنانية والسورية معاً، في بقعة تتداخل فيها الحدود الرسمية بين الدولتين. يعلّق العقيد ذو السحنة السمراء والملامح القاسية بندقيته في كتفه، ويرسم بيمناه من موقعه المشرف مسار الخطّ المقابل لمواقع الجبهة من الضفة السورية، بدءاً ببلدة كفير يابوس السورية القريبة، مروراً بالزبداني ومضايا وسرغايا. أما من الجهة اللبنانية، فيمكن أن ترى زحلة، وجزءاً يسيراً من البقاع الأوسط، بدءاً بعنجر في الجنوب، امتداداً إلى الفاعور وكفرزبد وعين كفرزبد وقوسايا ودير غزال ورعيت ورياق ومطارها العسكري في الغرب، وأبلح وبدنايل حتى النبي آيلا في الشمال.
عدو واحد!
أمور كثيرة تغيّرت هنا منذ بدء الأزمة السورية. قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، نقلت «القيادة العامة» مواقعها اللوجستية من مناطق الجنوب إلى البقاعين الغربي والأوسط، وبنت مواقع وحفرت أنفاقاً في قوسايا والسلطان يعقوب وحلوى. لم يكن أحد ليتخيّل أن المواقع التي غذّت عشرات العمليات ضد الجيش الإسرائيلي في لبنان وشمال فلسطين المحتلة، وفي بالها «النشاط المعادي» لمناصري «القوات اللبنانية» و«الكتائب» في القرى القريبة من قوسايا خلال سنوات ما قبل الطائف، أدارت ظهرها للبنان، وباتت تفكّر اليوم في مسلحي «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية» وبقايا «الجيش الحر» المتجمّعين في الزبداني. وطبعاً، لم يكن أحد من جماعة التخويف بـ«بعبع» السلاح الفلسطيني «خارج المخيمات»، يتخيّل أن هذا السلاح سيأخذ على عاتقه يوماً، كما اليوم، عبء حماية قرى شرق زحلة وطريق بيروت ـــ دمشق من اختراقات المهووسين بالذبح وتهجير المسيحيين، جنباً إلى جنب مع الجيشين اللبناني والسوري وحزب الله.
من منظار دبابة في أحد المواقع، تبدو المسارب الآتية من التلال الغربية لبلدة الزبداني بوضوح،
قد يسيل فيقوسايا دمٌ واحد من الجيش والفلسطينيين في مواجهةعدو واحد
ويظهر أيضاً موقع جديد للجيش السوري في «مزرعة الدقدوق». مهمة الدبابة قنص أي تحرّك للمسلحين في اتجاه الأراضي اللبنانية من عدة مسارب. وعلى ما يقول قائد النقطة، الخمسيني، إن قذائفه تحبط على نحو دوري محاولات تسلل لآليات أو أفراد في اتجاه «أرض مظفر» (في لبنان)، آخرها كان قبل أسبوع، حين «أردت قذيفة من هالمحروسة (الدبابة) عدة مسلحين حاولوا التسلل من فتحة الجنزيرة». يربّت القائد ذو اللحية الرمادية سبطانة رشّاش «الدوشكا» القريب بيد، وبيده الأخرى كتف أحمد، ابن حيفا، أحد المقاتلين اليافعين. فهو الآخر أحبط عدة محاولات تسلل على طريق «عطيب» بين الكفير السورية ولبنان. غير أن المنطقة الممتدة جنوباً من مواقع «القيادة العامة» تنتشر فيها مواقع للجيش السوري في مقابل عنجر ومجدل عنجر، والمنطقة الممتدة شمالاً تحكمها مواقع حزب الله، بدءاً بجنتا، التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية قبل عام تقريباً. ويستمر الخطّ الدفاعي في عمق الأراضي اللبنانية عبر عدة مواقع للجيش اللبناني تقع في خلفية مواقع «القيادة العامة» في تلال قوسايا. ولأجل غير بعيد، لم تكن علاقة «القيادة العامة» بالجيش اللبناني «طيبة»، على قاعدة أن «الشرعية للسلاح اللبناني وحسب»، وربما كان عناصر الجبهة «إرهابيين» في نظر الدولة، لكن مسار السنوات الأخيرة، وما بعد غزوة عرسال أخيراً ليس كما قبلها حتماً، فقد يسيل هنا في قوسايا دمٌ واحد من الجيش والفلسطينيين، في مواجهة عدو واحد.
كما في اليرموك
لا شكّ في أن إرهابيي «النصرة» و«داعش» يبحثون في الجرود الضائعة بين لبنان وسوريا عن اختراقات على طول السلسلة الشرقية، تماماً كما يبحث المسلحون المحاصرون في الزبداني بعد المصالحة الرخوة مع الجيش السوري عن وسائل لفكّ الحصار، الهشّ نسبياً من الغرب ـــ شرق لبنان. فتمضية الشتاء في هذه الجرود يعني الانتحار بالنسبة إلى المسلحين، ولا بدّ من حلّ قريب، لكن لا يغيب عن بال الأمنيين والعسكريين في هذه البقعة من الحدود الشرقية، أن المسلحين قد يحاولون إحداث اختراق ما في اتجاه عمق البقاع اللبناني عبر جبهة قوسايا، فضلاً عن محاولتهم تأمين ملاذ آمن من جرود عرسال والقلمون، إلى الزبداني، هرباً من مواقع حزب الله والجيش السوري على ضفتي جبال القلمون.
وتتقاطع مصادر أمنية سورية وفلسطينية ولبنانية رسمية وغير رسمية على القول إن «المسلحين سيحاولون في الأسابيع المقبلة مهاجمة أي بقعة يمكن السيطرة عليها على الحدود اللبنانية ــ السورية، ومن بينها جبهة قوسايا، فالجرود متلاصقة وفيها مسارب مخفية كثيرة من شمال خط الشام ـــ بيروت إلى جرود عرسال، على طول أكثر من 75 كلم».
اختراق قوسايا، قد يكون السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى أهالي البلدة والبلدات المحيطة ككفرزبد وعين كفرزبد ودير غزال ورعيت ورياق، المختلطة مع أغلبية مسيحية مارونية، وربّما بالنسبة إلى مدينة زحلة نفسها، فضلاً عن أن سقوط المواقع يضع مطار رياق العسكري في مرمى نيران الإرهابيين وكذلك الطريق إلى بعلبك، ويحرّك مخيمات النازحين السوريين الكثيفة في الفاعور و«عرب الموالي»، التي لم تغب في الفترة الأخيرة عن عيون استخبارات الجيش محاولات الإرهابيين التغلغل بين سكانها، بالإضافة إلى الدعم الذي قد تقدّمه «الخلايا النائمة» في بلدة مجدل عنجر.
هذا لا يعني أن مواقع قوسايا لقمة سائغة. يترك العقيد عمّار لعناصره في كلّ نقطة من معالم الجولة الكلام عن جاهزيتهم واستعدادهم. يقول باسم وهو ابن أحد شهداء الجبهة الذين سقطوا في غارة إسرائيلية في الجنوب بعد قصف مستوطنة «زرعيت» شمال فلسطين المحتلة عام 2004 رداً على اغتيال الشيخ أحمد ياسين: «قاتلتهم في اليرموك، وسأرميهم بقناصتي إذا حاولوا التسلل إلى هنا». ويقول جهاد، رفيقه العشريني، وهو رامي هاون خاض هو الآخر معارك عنيفة في مخيم اليرموك جنوب دمشق طوال العامين الماضيين: «بعرف هاي لجبال وباصمها، ووين بدي بتجي القذيفة، هادول ما بيخوّفوا، مو شاطرين إلّا بالذبح».
لم يهمل مقاتلو «القيادة العامة» مغارة في الجبال إلّا حولوها إلى نقطة قنص ورصد. ولم يوفّروا مسرباً بين التلال إلّا كمنوا عليه، فضلاً عن 4 آلاف لغم مضاد للأفراد وعشرات الأشراك والعبوات الناسفة، التي زُرعت أخيراً لضمان عدم تسلل المسلحين. «بالنهار الشباب منتشرين وعيونهم مفتحة، وبالليل المناظير الليلية بتكشف أي حركة»، يقول العقيد عمّار في طريق العودة من الجولة إلى موقع القيادة. ويعد ضابط البحرية بأن أي محاولة للهجوم على المواقع من قبل المسلحين، ستواجه بضراوة وكثافة نارية لا تقلّ عن تلك التي استعادت بها «القيادة العامة» السيطرة على أجزاء واسعة من اليرموك، «بالنهاية إحنا ما نخاف من إسرائيل ووجعناها كتير، هادول مش أقدر من إسرائيل».
أنفاق «حشمش» والـ«wifi »
قبل الوصول إلى مواقع «الجبهة الشعبية ـــ القيادة العامة» في الجرود، لا بدّ من زيارة مكتب العقيد أبو كرم في أنفاق «جبل حشمش» في قوسايا. و«حشمش» هي تلة في شمالي غربي بلدة قوسايا، وجنوبي دير غزال وشرق رياق، تخترقها أنفاق لـ«القيادة العامة» مجهّزة للصمود أمام قصف عنيف من الطائرات الإسرائيلية. يستبق العقيد حضور الزوار بكاسات الشاي الداكن على الطاولة المستطيلة في يمين الغرفة. صور الرئيس السوري بشّار الأسد تتوزّع خلف المكتب الخشبي الكبير. وعلى اليسار، عَلّق ضابط الأمن بندقية وصورة للشهيد جهاد جبريل فوق سرير، ليتحوّل المكتب إلى مكانٍ للعمل وغرفة نوم في آن واحد. بالمناسبة، البلاط النظيف يفترش الأرض من المدخل المموّه إلى نهاية النفق، مروراً بالردهات والغرف، والإضاءة كافية. وإن كنت مصاباً بـ«رهاب الأماكن المغلقة»، فلن تشعر بالضيق هنا. ولكي تكتمل الغرابة، سرعان ما يزوّدك العقيد بكلمة السر لموزّع الإنترنت (Wi-Fi)! فتُسْقِط على «google earth» الرسم البدائي الذي خطّه بسرعة لانتشار المواقع، وطريق الرحلة إلى مواقع الجرود. لا يخفي أبو كرم غبطته من تحوّل مواقف أبناء القرى المجاورة من «القيادة العامة»، ومع أنه لم تقع صدامات في السابق، لكن الأهالي أظهروا دائماً تخوّفاً من وجود «مسلحين فلسطينيين» بينهم. يضحك العقيد، فاليوم، لا تنحصر علاقته بالحزب السوري القومي الاجتماعي والعونيين والحزب الشيوعي وحزب الله وحركة أمل، بل تعدتها لتشمل مناصرين للقوات والكتائب، يبدون ارتياحهم لوجود «القيادة العامة» في قوسايا في ظلّ التهديدات الجديدة.
الزوجة والعشيقة
يقطع أذان العصر في مخيم برج البراجنة، صوت القائد العسكري لقوات «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة» خالد جبريل، أو «أبو العمرين». يؤخّر «الحاج» صلاته قليلاً، ليكمل الحديث عن تطوّرات المعارك على الأرض السورية، و«كذبة التحالف الدولي». عند «أبو العمرين»: «الحرب لا تزال في البداية، والعدو سيستخدم كل الساحات، لكننا سننتصر». عن مخيّم اليرموك، يخبر الضابط البحري عن تطوّر أساليب عمل مقاتلي الجبهة، وزيادة براعتهم في حرب العصابات في اليرموك والقنيطرة ودرعا وأماكن أخرى من سوريا، ويتمنى «لو تفكّر حركة حماس بفلسطينيي اليرموك وتضغط على بعض المسلحين، لانتهت الحرب في المخيم». أما لبنان، فيؤكد «أبو العمرين» أن موقف الجبهة «هو الدفاع عن لبنان جنباً إلى جنب مع المقاومة والجيش اللبناني الشقيق ضد عصابات التكفير». وعن فلسطين بعد حرب غزّة الأخيرة، يقول إن «رائحة التسويات المذلّة بدأت تنتشر في الأجواء، والتفريط بالانجازات العسكرية ودماء الشهداء لن يعيد فلسطين أبداً»، مشيراً إلى أن «الجبهة شاركت في المقاومة بأقصى قدرتها خلال الحرب على غزّة». تبدو «القدرات المتواضعة» شيئاً مزعجاً بالنسبة إلى «أبو العمرين»، «فبعد ما جرى لا بدّ من إعادة النظر في إحياء حركات المقاومة خارج الإخوان المسلمين، الذين أثبتوا أنهم ينقلبون وفق مصالحهم»، لكن «الحاج» يفهم أن علاقة «القيادة العامة بمحور المقاومة، ثابتة كعلاقة الرجل بالزوجة، فيما تبدو علاقة حركة حماس بالمحور كالرجل والعشيقة، يعطيها الاهتمام والغنج حتى لا تعشق غيره».