اقتصادات الظل قوية وكبيرة بالرغم من كل الجهود الدولية لمكافحتها. تقدر اقتصادات الظل أو النشاطات غير الشرعية بحوالى 20% من الناتج المحلي الاجمالي في الدول الصناعية و بـ35% من الناتج في الدول الناشئة وبنسب أعلى في الدول النامية. الاحصائيات الصحيحة صعبة لأن هذه الاقتصادات تعمل بالسر أو بعيدا عن الأضواء وبالتالي كل الأرقام المرتبطة بها تنقصها الدقة. ما يتوافر اليوم في آخر الاحصائيات، هو أن حجم اقتصاد الظل يقدر بـ13% من الناتج في بريطانيا، 30% في تركيا، 10% في سويسرا، 20% في اسبانيا و38% في بلغاريا. المعدلات العربية لا تبعد عن المستوى التركي أي في حدود ثلث الناتج وليست الأسواء عالميا بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة.
اذا اقتصاد الظل كبير ويشير الى تهرب كبير من الضرائب والقوانين حتى في أعرق الدول مؤسساتية وديموقراطية. هنالك أسباب متعددة لهذا التفلت الكبير من الشرعية في كل الدول وان يكن بنسب مختلفة. طبعا لا يمكن لهذا الاقتصاد الأسود أن يحافظ على هذه الأحجام من دون بعض التعاون المقصود أو غير المقصود من قبل السلطات الشرعية. الحافز الأساسي لهذا التعاون أو التحالف أحيانا هو المال والسيطرة السياسية كما النفوذ الاداري والقوة السياسية تحديدا. تحالف السلطة والمال يبقى دائما في غاية الخطورة، فكيف اذا أضفنا له الاجرام والعنف اللذان يترافقان مع هذه النشاطات.
ما هي العوامل المسببة لهذا الانتشار غير الشرعي الذي يبقى مزدهرا بالرغم من الجهد الأمني والقضائي لمحاربته؟ هنالك النسب الضرائبية المرتفعة التي تدفع أحيانا بعض قطاع الأعمال والميسورين الى تهريب أموالهم وثرواتهم كي لا تخضع للضرائب المرتفعة المتنوعة. في «أوراق باناما» الشهيرة هنالك ألوف الأمثلة على التهرب من الشرعية لأسباب متعددة. من الأسباب نشاطات المخدرات والبشر والأعضاء والأسلحة والمجوهرات والتهرب المالي من العقوبات وغيرها من التبادل السلعي والخدماتي الذي يجذب الجشعين والمتهورين كما المجرمين طبعا. «أوراق باناما» مهمة جدا وتتفوق في فضائحها وخطورتها على «ويكيليكس» وادوارد سنوودين. تشير هذه الفضائح الى صعوبة اخفاء النشاطات غير الشرعية كما النشاطات الخاصة المختلفة في زمن الرقمية العالمية المتطورة. في نيسان 2016 ومع «أوراق باناما»، تبين للعالم النشاطات الضخمة المخفية عن الجميع والتي تهتم بها شركة محاماة في باناما تدعى «موساك فونسيكا» تبعا لاسمين ضليعين في نشاطات سرية مالية خطيرة.
تحتوي سجلات هذه الشركة البانامية السرية للمحاماة على 11,5 مليون وثيقة وعلى سجلات عن 214 ألف شركة «أوفشور» تقوم بعمليات تبييض الأموال والتهرب الضرائبي. لا مثيل لنشاطاتها في نوعيتها وخطورتها وتوزعها في الجغرافيا والقطاعات. ليست هنالك أي جنسية في العالم لم تستفد من هذه العمليات الجاذبة للثروات. في سنة 2016، كان هنالك 400 صحافي يدرسون ويحللون هذه الوثائق التي هربتها جهات معينة غير معروفة أي لم تعرف عن نفسها لأسباب بديهية. من الوثائق المعروفة التي ظهرت للاعلام هي عمليات التهرب الضرائبي من قبل رئيس وزراء بريطانيا السابق «كاميرون» وعائلته والتي لم تطح به، بل قامت بذلك نتائج استفتاء «بريكسيت» بعد فترة قصيرة.
كما ظهرت للاعلام عبر «أوراق باناما» عمليات التهرب الضرائبي لرئيس الأرجنتين السابق كيرشنير وزوجته وتهريبهم لحوالي 65 مليون دولار من الأرجنتين الى الخارج عبر شركات وهمية عندما لم يكن مسموحا القيام بذلك. ما كتب عن رئيس الوزراء البريطاني ورئيس الأرجنتين يسري على مئات القادة في العالم الذين يهربون أموالهم من دولهم خوفا من المحاسبة والرقابة. تقوم الشركة البانامية بتلبية حاجات المسؤولين الراغبين بالسرقة والتهرب والتخبؤ وراء ستار الفساد والضبابية. الشركة تعرض الخدمات السوداء لكن الطلب يأتي من جميع أنحاء العالم وقسم من هذه الوئاثق أصبح متوافرا اليوم للجميع.
ان وجود قطاع غير شرعي كبير مضر للاقتصاد العام ليس فقط لأنه يحرم الدولة من مليارات الدولارات من الضرائب، بل لأنه يضر بالقطاعات الانتاجية وبالتجارة الشفافة وبقطاع العمالة كما بالتعليم والأخلاق وغيرها من الأمور المرتبطة بها. تؤثر القطاعات غير الشرعية على مستقبل الاقتصاد وحيوية المؤسسات وعملها لخدمة المواطن والفقير تحديدا. المؤسسات القوية الشفافة تعني تحقيق نمو متوازن عادل يستفيد منه الجميع وليس الأقوياء فقط. هنالك أحيانا قوانين شرعية تساعد على انتقال الثروات ضمن العائلات الواحدة ولا تسمح للمواطن بتوزيع ثرواته كما يشاء على المجتمع دعما للتطور والتقدم.
في القوانين الفرنسية مثلا وتلك المقتبسة منها، لا يمكن للانسان الا توزيع 50% من ثروته بحرية اذا كان له ولد واحد، 33% من الثروة اذا كان له ولدان و 25% فقط اذا كان له 3 أولاد أو أكثر. أما القوانين «الأنكلوسكسونية» فتترك الحرية للفرد بتوزيع ثروته كما يشأ، تماما كما فعل «بيل غايتس» حيث وضع ثروته في صندوق كبير ينفقه على النشاطات الاجتماعية في كل دول العالم. الأنظمة الفرنسية تبقي الثروة مجموعة في عائلات معينة بينا تقوم الأنظمة الأخرى بالسماح بتوزيعها على المجتمع تبعا للحاجات ودعما للتجدد والتقدم وتحفيذا للانتاجية.
أبرز النشاطات غير الشرعية تحصل عبر المحيطات والبحار حيث الرقابة ضعيفة وتكلفة الشحن هي الأدنى، كما تسمح بوصل البقع الأرضية بسهولة. تبعا لمنظمة التعاون التي تضم الدول الغربية الأساسية، هنالك 9 مليارات طن من السلع تنقل بحرا كل سنة. تتوقع المنظمة أن يصل حجم النقل البحري الى 3 ألاف مليار دولار قبل سنة 2030. يتم وضع هذه السلع في حاويات كبيرة لا يتم عمليا تفتيش الا 2 الى 5% منها لاستحالة القيام بأكثر دون اعاقة عمليات النقل. هنالك 750 مليون حاوية تتنقل في المحيطات والبحار كل سنة أي أن العدد ضرب 8 مرات بين سنتي 1995 و 2015 وبالتالي التفتيش في المرافئ مستحيل. لذا التهريب عبر البحار ليس صعبا للمافيات المنظمة المنخرطة بالأجهزة الشرعية وغير الشرعية. المليارات تجذب وهذا ما يحصل. هنالك تواطؤ أكثر مما هنالك من عجز تجاه النشاطات غير الشرعية الدولية.
في صيد السمك غير الشرعي، تقدر منظمة التغذية والزراعة حجمها ب 26 مليون طن سنويا أو ما يقيم بعشرات مليارات الدولارات أو 15% من الانتاج العالمي. تكمن المشكلة في أن الصيد غير الشرعي يضرب البيئة وسلامة النقل البحري ويؤذي الصيادين الشرعيين الذين يعيشون من عرق الجبين. هنالك من يقول أن تواجد الصيد غير الشرعي يخفض أسعار المأكولات البحرية لكن هذا غير صحيح عموما تبعا للأرباح الضخمة المحققة من قبل مافيات البحار.
أخيرا من السلع التي تنقل بنجاح عبر البحار كما الوسائل الأخرى هي المخدرات المضرة بالرغم من أن العمليات الأمنية التي تهدف الى القبض عليها كبيرة وقوية وتنجح أكثر فأكثر. بين سنتي 2017 و2019، ارتفعت كمية المخدرات المحجوزة 3 مرات أي من 22,4 طن من الكوكايين الى 73,2 طن. من الأخطاء التي تقوم بها السلطات الشرعية هي تركيزها على محاربة الانتاج والعرض أكثر من اهتمامها بتخفيف الطلب الذي يساهم عمليا بخلق وتعزيز العرض. كما هنالك أخطاء أخرى منها عدم التنسيق بين الدول في المكافحة، اذ يتم تهريب السلع بسهولة من دول الى أخرى أو بالأحرى من دول ذات قضاء وقوانين قاسية الى أخرى سهلة أو خفيفة. كما أن معالجة موضوع التهريب يتم عبر سياسات آنية أو قصيرة الأجل وليس عبر سياسات متكاملة طويلة الأمد تعالج عمق المشكلة وخاصة عمق الطلب وأسبابه.