انشغلت الصحافة العالمية بما سمي “أوراق بناما” التي تتشكل من 11.5 مليون صفحة من المعلومات والارقام عن زبائن مكتب محاماة في بناما يحمل اسم شريكين هما Jurgen Mossack الالماني الاصل وRamon Fonseca البنامي. ووالد الاول كان نازياً معروفاً، اما الثاني فكان من اعمدة النظام البنامي.
تشمل الوثائق معلومات عن شركات “أوف شور” تولى مكتب المحامين تأسيسها في عدد من بلدان استقبال شركات “الاوف شور”، وغالبية هذه خارج بناما كانت في جزر سبق لها أن خضعت للسيطرة البريطانية.
الامر الذي يسترعي الانتباه ان الوثائق سربت الى جريدة المانية قبل سنة، ونظراً الى ضخامة المحتويات لجأت الجريدة المعنية الى جمعية المحررين الاستقصائيين الدولية International Consortium of Investigative Journalists التي مركزها في واشنطن. والتي كلفت 400 محلل مهمة مراجعة الوثائق، ونشرت النتائج الأولى في تاريخ 5/4/2016 وتناولت 149 شركة وعدداً من المسؤولين الكبار في بلدان الخليج العربي، كما الصين وروسيا وبلدان اوروبية.
عدد الشركات التي أسسها مكتب Mossack & Fonseca تجاوز الـ210 آلاف شركة موزعة على 21 بلدًا أكثرها، بعد بناما، في البهاماس، والجزر العذراء البريطانية، والسيشيل، وساموا، وكان العدد الاكبر من هذه الشركات بعد بناما مسجلاً في بريطانيا، بموجب قوانينها.
قبل البحث في أوضاع أثرياء معروفين لا بد من ابداء ملاحظات رئيسية تحيط بالموضوع من مختلف جوانبه.
– أولاً إن أقل عدد من المستفيدين من خدمات المكتب البنامي هم من الاميركيين ولا يتجاوز الاربعة. وثمة سببان لذلك، أولهما ان هناك وجوداً أميركياً كبيراً في بناما ولا يمكن اخفاء معلومات مهمة عن السلطات الاميركية فيها، ولعل من المفيد التذكير بان نورييغا، رئيس بناما بين 1983 و1989 كان، استناداً الى كتاب رئيس الاستخبارات الاميركية في تلك الفترة Casey، عميلاً اميركياً تولى ابلاغ السلطات الاميركية عن عمليات تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية، وخصوصاً من كولومبيا الى الولايات المتحدة.
وبعد استنفاد الافادة من نورييغا سجنه الاميركيون سنوات في فلوريدا بتهمة المشاركة في تهريب المخدرات وسلم في ما بعد الى فرنسا لادانته بجرائم مالية وعاد الى بلاده عام 2011.
والسبب الثاني لتجاوز الوثائق الافراد والشركات الاميركيين هو ان الولايات المتحدة تسمح بممارسات تماثل عمل مكتب المحاماة البنامي في ولايتين أميركيتين على الاقل هما ولاية Delaware وولاية Nevada حيث مدينة لاس فيغاس وتدفق الاموال عبر نوادي القمار دون حسيب أو رقيب.
ربما لهذه الاسباب علق الرئيس أوباما، وهو محام متخرج من هارفرد وصاحب مؤلفات قانونية وفرت له استقلالاً ماديًا، بأن الخطأ ليس في ممارسة المكتب البنامي، بل في ثغرات في القوانين المطبقة على شركات “الاوف شور” عالمياً.
المصارف الكبرى في العالم استقبلت حسابات غالبية الشركات وتفحصت أوراقها وقبلت حساباتها، ومن هذه HSBC، وSociété Générale، وDeutsche Bank، وبنك Norea في أسوج، وبنك Dexia، وبنك J.Safra Sarassin في اللوكسمبور، وجوزف صفرا المصرفي اللبناني الاصل وشقيق ادمون صفرا المصرفي اللبناني الآخر الذي اغتيل في منزله في موناكو قبل سنوات، وCrédit Suisse، وUBS الخ… باختصار، شارك 500 مصرف في تأسيس 15600 شركة سجلها المكتب البنامي، وكان المصرف الاكثر نشاطًا على هذه الصعيد HSBC الذي سجل 2300 شركة من المجموع وتعامل معها.
ولا بد من ابداء ملاحظة في شأن مبادرة فرنسا الى اعادة تصنيف بناما دولة لا تلتزم قوانين محاربة تبييض الاموال والارهاب.
عام 2007 وقعت فرنسا اتفاقًا مع قطر صوت عليه البرلمان الفرنسي ولا يمكن نقضه ما لم يوافق الطرف الآخر، أي قطر، على ذلك، يمنح المؤسسات القطرية اعفاء كاملاً من الضرائب على الدخل وعلى ارتفاع القيم وبالتالي افسحت فرنسا بموجب هذا الاتفاق للشركات القطرية ان تعمل في مجالات السياحة والعقار والصيرفة والاستثمار دون اية التزامات ضريبية، ويسري الامر على استثمارات العائلة القطرية الحاكمة وتفرعاتها. ولا شك في ان اتفاقاً كهذا يتجاوز في مفاعيله، وان يكن محصوراً بالمؤسسات القطرية، ما حققه المكتب البنامي لزبائنه من الحماية من الضرائب في أي بقعة من العالم.
ما سرب حتى تاريخه جزء بسيط من المعلومات الاجمالية ويمكن القول إن التسريبات الاولية كان القصد منها استثارة الاهتمام بالموضوع، ونشير الى بعض التفاصيل التي ليست في غالبها ذات اهمية.
الاشارة الى تأسيس العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز شركتين لتملك املاك عقارية في بريطانيا بقيمة 12 مليون دولار يبين بوضوح رغبة في التجريح الرخيص. ذلك ان هذه الاستثمار بحد ذاته لا يمثل نسبة بسيطة من تملك افراد عرب حققوا ثروات من نشاطهم في العالم العربي.
نذكر مثلاً ان محمد الفايد، وهو يحمل الجنسية المصرية ولم يحظ قط بالجنسية البريطانية، تملك متجر Harrod’s باسم شركة “أوف شور”، ومن ثم باعه لقطر بمبلغ 1,5 مليار استرليني. ويمكننا ذكر مشروعين عقاريين مميزين في لندن تأسست شركاتهما القابضة في مناطق خاضعة للتشريع البريطاني، وقيمة المشروع الاول مليارا استرليني والثاني 600 مليون استرليني.
– ان الحديث عن ملكية بالوراثة لرئيس وزراء بريطانيا في شركة استثمار أسسها والده كشركة “أوف شور” والمطالبة باستقالته، يناقضان القوانين المرعية، فكل ما حصل عليه رئيس وزراء بريطانيا 30 الف جنيه من بيع اسهمه في صندوق استثماري اسسه والده الذي توفي عام 2010 ومقدار الربح المتحقق من عملية البيع هذه لا يخضع لاي ضريبة.
– أما الرئيس الاوكراني، فقد خصص نتائج عمله في تحديث مصنع للشوكولا وتحقيقه ربحًا استثماريًا وخصوصاً في تسويق بضاعته في روسيا، والاتهام لم يقلقه، اذ كان من المعروف انه صاحب ثروة، اعلن عنها قبل توليه رئاسة اوكرانيا.
– بين الاسماء الواردة، ربما كان اسم رئيس وزراء ايسلندا، الذي تنحى عن منصبه بسبب تملكه شركة حازت ترصيد موجودات المصارف الأيسلندية التي افلست منذ سنوات، الاكثر استغرابًا. فحكومته انقذت مصارف افلست وشكلت صندوقًا لترصيد موجوداتها ابتاعه مع زوجته، وتالياً، وبعد تسجيله شركة “أوف شور” بمساعدة المكتب البنامي كان سيحقق ارباحًا ملحوظة من قرارات حكومية.
أخيراً، اتهام قد ينال صهراً للبنان حاز شهرة أخيراً ألا وهو رئيس الـFIFA المنتخب حديثًا السيد انفنتينو الذي كان رئيسًا للقسم القانوني في الاتحاد الدولي لكرة القدم ووقع عقوداً مع شركة سويسرية تتعلق بتسويق الاعلانات الناتجة من بطولات كرة القدم على صعيد دولي. فهنالك معلومات من صحيفة “الفايننشال تايمس” تفيد ان الوكالة الحصرية اعطيت لشركة سويسرية يملكها ابن شقيقة بلاتر الرئيس السابق للـFIFA وهذا بدوره سوق الوكالة الحصرية لشركة صينية مقابل 1,2 مليار دولار، ونتيجة التحقيقات ستظهر قريبًا. تبدو الاتهامات، التي ستتوالى في الايام والاشهر المقبلة كأنها تنال من زعماء، أو مساعدي زعماء كبار، أمثال الرئيس الروسي، والرئيس الصيني، وبعض الزعماء العرب، والفريق الذي يستخلص الاتهامات يتألف من اعضاء وخبراء في جمعية المحررين الاستقصائيين الدولية التي تعمل في واشنطن وتحظى بمساعدة السلطات الاميركية، خصوصاً ان الاتهامات لا تطاول شخصيات اميركية معروفة، سياسياً أو اقتصادياً، كما ان مجال تأسيس شركات “الأوف شور” مفتوح في ولايات اميركية معروفة. ويمكن القول إن اليخوت المسجلة في شركات مؤسسة في ولاية Delaware بالولايات المتحدة والتي تجوب جزر الكاريبي والبحر المتوسط تتجاوز قيمتها اية مبالغ أشير اليها حتى تاريخه.