تزامُناً مع أجواء إيجابيّة سادت فجأةً على الساحة السياسية، يتمّ تداوُل تقارير ديبلوماسية مصدرُها محافل وعواصم دولية، وأبرزُها تقرير منسوب إلى مصادر في الاتّحاد الأوروبي، وكلّها تؤشّر إلى انفراجات على مستوى الأزمة السوريّة تتمّ على مرحلتين، الأولى حتى آذار المقبل، وخلالها تتَّضح معالم التحالف الدولي ضد الإرهاب، والثانية قد تستغرق من سَنة إلى سنتين، وخلالها يتمّ إنضاج الحلّ الشامل لهذه الأزمة.
تُسَلّط «الجمهورية» الضوء على أبرز نقاط التقرير المنسوب إلى مصادر في الاتحاد الاوروبي والذي يشرح المسار الذي بلغته لقاءات فيينا حول سوريا، وطبيعة الانفراجات المتوقّعة فيه، مع التوقّف عند أخطر عقبة تواجهه، إضافةً إلى عقبات أخرى يُنتظر تذليها في الأسابيع المقبلة.
تفاصيل التقرير
من وجهة نظر سياق معلوماتي منسوب الى كواليس في الاتحاد الاوروبي، فإنّ التفاوض الدولي ذا الصّلة بالمسار الروسي المزدوج (العسكري والسياسي) في سوريا، يسير في الاتجاه الصحيح عموماً. الأوروبيون متيَقّنون من أنّ الاميركيين والروس هم الآن على الموجة نفسها ويقودون ديبلوماسية المسار المزدوج double track بتنسيق عالٍ جداً.
لكنّ هذه المصادر الأوروبية تُحدّد عقبة رئيسة مرشحة لأن تُهدّد مجمل هذا المسار الإيجابي الآخذ في التعاظم في لقاءات فيينا، وتتمثّل في تعرّض تطبيق الاتفاق النووي الايراني ـ الغربي الى تأخير مقصود.
وتتأتّى خلفية هذا التخوّف من اعتقاد يسود بأنّ هناك خطاً متطرّفاً في ايران وفي الغرب قد تكون له مصلحة بإطالة أمد تطبيق الإتفاقات الايرانية مع الغرب، بهدف ربطِ أمر إتمامها بإنشاء مقايضات على مصالح في أماكن أخرى داخل المنطقة.
تؤكّد هذه المصادر أنّ الاتفاق الإيراني ـ الغربي كان له دور مهمّ جداً في التمهيد لعقدِ لقاءات فيينا السورية، ومن دونه ما كان يمكن عقدها. وعليه تُثار الخشية الآن من احتمال تعَرّض مسار فيينا لاعتراض متطرّفين من الجهتين (إيران والغرب) عبر اتّباعهم تكتيكات لعرقلة تطبيق الاتفاق الايراني ـ الغربي بهدف فتح بازار مساومة جانبي بين طهران وواشنطن على أزمات المنطقة.
من جهتهم في الغرب، يتوَجّسون من أن يلعب التيار المتطرّف في إيران هذه الورقة لفرضِ إيقاعه وشروطه على مسار الأمور في سوريا والمنطقة. التوجّس نفسُه يشعر به الرئيس الايراني حسن روحاني الذي يخشى بروز متطرّفين في الغرب يَرَوْن مصلحةً في إبطاء مسار تطبيقات الاتّفاق الايراني ـ الاممي لأسباب تتعلّق بفرض مقايضات على ايران في سوريا والعراق.
ويشار حالياً إلى وجود تسابق مضمر بدأت تَبرز إرهاصاته بين البراغماتيين والمتشدّدين في الغرب وإيران، وأيضاً تحاول الدخول على خطّه أطراف أخرى ضِمنها أجواء في تركيا والسعودية.
عدا هذا التخوّف الآنف يبدو مسار فيينا سائراً في الاتجاه الصحيح وإبداء قدرة أوّلية على تذليل عقبات تعترضه؛ ودلالات ذلك عدّة، وأبرزُها:
أوّلاً – تأقلُم الغرب مع الوضع في أوكرانيا وهضمُ موضوع القرم، وحصول تقدّم ملحوظ على مستوى وضعِ الحلول هناك على سكّة الاتفاق مع الروس. يساعد هذا في إنتاج ثقة بين موسكو وواشنطن بخصوص تَرافُق الوزيرين جون كيري وسيرغي لافروف معاً في مسيرة حلّ الأزمة السورية.
ثانياً – الضربات الارهابية الاخيرة التي تعرّضت لها باريس، جعلت فرنسا تشعر بأنّها أقصَت نفسَها عن المسار الدولي للحلّ في سوريا، بسبب سياستها الخارجية غير البراغماتية. وبَعد جولة فيينا الاخيرة والمساهمة الفرنسية الجدّية في قصف «داعش» في الرقّة، يتوقّع أن يتطوّر الموقف الفرنسي في اتّجاه مزيد من البراغماتية ليبلغ ذروته في مطلع السنة (كانون الثاني – شباط).
ثالثاً – لقد أعقبَ حادثة إسقاط الطائرة الروسية في مصر، حراك كثيف على خط موسكو- العواصم الغربية (لندن، برلين، واشنطن) في موضوع التنسيق الكثيف في مكافحة الارهاب وضرورة وضع استراتيجية دولية لمحاربته. حصل هذا الحراك قبل أن تتأكّد موسكو من أنّ الطائرة تعرّضت لاستهداف إرهابي، والآن بعد إعلان تأكّدها من ذلك، فإنّ مسار التنسيق الروسي مع الغرب ضد الارهاب ستَسوده جدّية أكبر.
لقد توصّلت روسيا لاستنتاج له صفة يقينية، يفيد بأنّ استهداف طائرتها في شرم الشيخ تضمّن رسالة تريد القول لموسكو إنّه حتى لو لم تنزل قوات روسية الى الارض، فإنّ ذلك لن يُقلّل احتمال تكبّدها خسائر بشرية. ذلك أنّه يمكن تكبيدها هذا الثمن في الميدان الجوّي عبر عمليات إرهابية تستهدف أسطول طائراتها المدنية عبر العالم.
كان لافتاً أنّ عرضَ موسكو مكافأة 50 مليون دولار لمَن يدلي بمعلومات تكشف هوية الفاعلين، جاء في الوقت عينه الذي قدّمَ فيه الرئيس فلاديمير بوتين لائحة الى قمّة العشرين عن أوّل الدول المموّلة للارهاب، وضمّت أسماءَ دول مشاركة في القمّة. تزامُن إعلان المكافأة مع اللائحة، يُضمر رسالة تهديد من بوتين الى دوَل معيّنة.
رابعاً – أولويات مسار فيينا: بات الغرب يعتقد أنّ مستقبل الرئيس بشّار الأسد يجب أن لا يُطرح الآن. هناك مسائل كثيرة شائكة يجب معالجتها أوّلاً، حتى يتسنّى خلق ديناميكية إيجابية في اتّجاه إنتاج حلّ سياسي للأزمة السورية.
وخريطة طريق هذه الدينامية تتّسم بالتركيز على أولويات، منها تشكيل مجموعات عمل من الخبراء والممثلين السياسيين لأطراف النزاع، والبحث في مسائل ضاغطة دولياً وإقليمياً مثل النازحين وإعادة الإعمار (من خلال مشروع مارشال يشارك الغرب في تمويله وتنفيذه)، والعلاقات المحلية والمصالحة والعلاقات الدولية والمخطوفين والمفقودين، وبعد ذلك الدستور والنظام السياسي والانتخابات… ألخ.
يُنتظَر أن يستغرق النقاش في هذه القضايا وقتاً وجهداً واختلافات حادّة قبل الوصول إلى نتائج إيجابية، وعليه فإنَّ المتوقّع عَقدُ اجتماعات عدة في فيينا من الآن حتى آذار، خصوصاً أنّ نسبة الدمار والمشكلات كبيرة ويصعب الوصول الى اتفاقات سريعة في شأنها.
أحد المواضيع، والذي يحتلّ مرتبة الأولوية في لقاءات فيينا يتعلّق بقضية من سيراقب تطبيقَ الاتفاقات السياسية والاقتصادية وغيرها على الأرض. البحث عن إجابة لهذا السؤال يراعي الحفاظ على سيادة الدولة واستقلالها، ومراعاة الحساسيات السوريّة المحلية تجاه الدوَل المقترحة مُراقِبةً لتنفيذ الاتفاقات على الارض. ولا يزال النقاش غير محسوم عمّا إذا كان الروس والأميركيون وبعض العرب سيشاركون في المراقبة. وقد أكّدت موسكو أمس أنّها لن تشارك بقوّات برّية.
المشكلة الأخرى المصنّفة من الأولويات والتي تؤرق مفاوضات فيينا، تتعلّق بـ «تمثيل المعارضة» في التسوية، وهو أمرٌ يزداد تعقيداً، خصوصاً في ظلّ استبعاد البحث في مصير الأسد أوّلاً، أو تأجيله الى ما بعد الاتفاق على المسائل الآنفة التي لها أولوية من بين نقاط التسوية الأخرى.
إلى النقاط الآنفة، تندرج أولوية أخرى، وهي تحديد اللائحة الدولية بالفصائل الارهابية التي يجب مواجهتها. وعلى رغم وجود توقّع أن تحاول تيارات متشدّدة في السعودية وتركيا، تصعيدَ الواقع الميداني السوري لفترة، إلّا أنّ ذلك لا يملك أيّ أفق، خصوصاً أنّ الجهد الدولي الراهن المنصَبّ على إعداد لائحة بالفصائل الارهابية في سوريا سيُحرج الدول التي تحاول دعمَ الأخيرة لأسباب سياسية، وبدلاً من ذلك ستتبنّى أولوية المشاركة في معركة مفاوضات فيينا لتحديد من هي الفصائل الإرهابية على اللائحة الدولية، وإخراج الفصائل الحليفة لها منها، بدلاً من الانشغال في هذه المرحلة بدعمها عسكرياً وتركِها نَهباً لإمكانية وسمِها بالإرهاب.
وعلى رغم انتقال مكان العمل لإنتاج لائحة بالقوى الإرهابية في سوريا، إلى الأردن، إلّا أنّ العمل لإنجاز اتفاق بين الروس والأميركيين حول لائحة موحّدة بالتنظيمات الإرهابية التي يجب مواجهتها، بالإضافة الى «داعش»، يستمرّ بعيداً من الأضواء.
حتى الآن قُدِّمَت بعض اللوائح، إحداها من الإمارات العربية المتحدة، واللافت فيها أنّها تضمّ 15 مجموعة تابعة لـ»الجيش الحر» (ربّما من خلفيات إخوانية). في المقابل تملك واشنطن لائحة أخرى ضَمّنتها «جبهة النصرة»، لكنّ أنقرة لا تزال تُصَنّف هذه الجبهة بأنّها معتدلة وليست إرهابية.
من جهة أخرى، تتوافر معطيات ميدانية تشي بأنّ واشنطن أعطَت الضوء الأخضر للروس لضرب التنظيمات المسلّحة الأخرى (غير «داعش») بما فيها المرتبطة بالأميركيين، وقد يكون ذلك لدفع البعض منها لتلبية بعض الشروط الأميركية – الروسية، خصوصاً في ما يتعلق بالتفاوض المقبل. لكن في نهاية المطاف، سيقوم الروسي والاميركي بتحديد مشترك لمَن هي التنظيمات الإرهابية التي يجب ضربها.
الأمر الإجرائي الأساسي الذي يشغل كواليس فيينا راهناً، يتمثّل بنقاش توجُّه لإقرار «آلية عمل دولية وإقليمية»، هي عبارة عن تشكيل «فريق عمل صغير من 6-6 دول»، تكون مهمّته تقرير نوعية الخطوات التالية اللازمة للتقدّم في اتّجاه الحل السياسي في سوريا، ومن ثمّ يُبحَث في الخطوات التي تقرّ في مجموعة «6-6» مع المجموعة الأوسع التي قد تصل إلى 30 دولة. على أن تجتمع مجموعة «6-6» مرّتين أو ثلاث في فيينا من الآن وحتى آذار المقبل.
صاغت لقاءات فيينا الأخيرة اقتناعاً بخصوص جوهر المهمّة الراهنة ومفادُه أنّ المهم هو التأسيس لاجتماعات دورية، حتى لو ظهَرت خلافات ومماحكات ونزاعات. فالأخيرة يمكن لها أن تتبدّد مع مرور وقت إضافي على استمرار جولات فيينا، وأيضاً بفعل وجود الضغط الدولي. وثمّة تقدير أنّ التزام هذا المسار سيوفّر إنضاج فرصة إيجابية، على رغم الاعتراف بأنّ ذلك سيستغرق وقتاً لا يقلّ عن سنة أو سنتين.
إيجابيات مستجدّة
خامساً – وافقَت تركيا بعد إعادة انتخاباتها التشريعية، على «تخفيف دعمها للجماعات المسلّحة»، مقابل تطمينات روسيّة وأميركية في ملف الأكراد السوريين. ويساهم هذا في جعل أنقرة مساهمةً في دعم لقاءات فيينا.
يُنتظر أيضاً أن تنهي السعودية قريباً مسارَ «معاندة» داخل لقاءات فيينا يتوقّع أن يستمرّ لبعض الوقت، ولكنّها في النهاية ستُشجّع المعارضة التي تدعمها على المشاركة في فيينا، وذلك على رغم تأجيل البحث في مصير الأسد وعدم بتّه منذ الآن.
من جهة أخرى، تؤشّر مصادر أوروبية متابعة للجهد الدولي في فيينا، إلى أنّه أخيراً ظهرَت مرونة أميركية في مستقبل الأسد، وتلاحظ أنّ واشنطن بدأت تستفسر عن مخارج مقبولة لهذه الأزمة.
وهناك اتّجاه بين المتابعين يتوقع بأنّ استمرار الأجواء الإيجابية في مفاوضات فيينا من جهة، واستمرار التعاطي الإيجابي للدول المشاركة فيها تجاه تسهيل التفاوض والحلول من جهة ثانية، قد يؤدّيان مع الوقت الى ظهور مرونة أميركية حتى في ترشّح الأسد إلى الانتخابات المقبلة عند الاتفاق على توقيتها.
حتى الآن تستمرّ السعودية في طرح عرضٍ حمَله خليجيّون خلال الشهرين الماضيين الى موسكو، وهو استبدال الأسد بشخصية سُنّية أو حتى علوية تكون أكثرَ تشَدداً منه في قتال الإرهاب. الخليجيون باتوا أخيراً أقربَ من زاوية منطقية لفكرة إبقاء الرئاسة مع العلويين من أجل طمأنتِهم.
سادساً – لا ترصد المصادر الأوروبية في هذه الفترة أيّ أثر لوجود خلاف روسي – إيراني، إلّا في الحدود الطبيعية لأيّ تحالف. وتلاحظ أنّ التنافس اليوم بين كلّ القوى الدولية والاقليمية يتمحور حول من سيستطيع خلقَ ديناميات إيجابية في الوضع الخاص بإنتاج حلّ في سوريا.
سابعاً – اليمن دولة فقيرة، وليست على قائمة الاهتمامات الدولية، وقضيتُه تتفاعل ضمن سياقات أخرى، خصوصاً في هذا الملف؛ لذلك يسَلّم الغرب بالموقف السعودي في اليمن، ويدعو الرياض في الوقت عينه الى الحوار مع ايران، بالتوازي إن أمكن، مع فيينا السورية.
وأحدثُ مواقف الحراك السلمي البطيء تَمثّل باقتراح الرياض استبدالَ سلطنة عمان بدولة الكويت كوسيط بينها وبين اليمنيين. الإيرانيون لم يعلّقوا حتى الآن على هذا التبديل، رغم أنّ الكويت أبلغَت إليهم هذه الرغبة السعودية.