يتسلّم السفير البابوي الجديد المونسنيور باولو بورجيا مهامه في لبنان في أحلك الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسط أزمة لم تعرفها البلاد من قبل. لذا، هو أمام مسؤوليات جسام ترقى إلى حجم الكرسي الرسولي ودوره.
منذ ما قبل ولادة لبنان الكبير، سرت مقولة بارزة زمن القائممقامية والمتصرفية تفيد بأن لبنان يُحكم من قِبل المخابرات والسفارات الأجنبية. وليس بروتوكول1861 إلا تعبيراً صارخاً عن مدى التدخّل الدولي في لبنان بعدما أشعلت سفارات الدول الراعية للبروتوكول نار الفتنة في ربوع جبل لبنان القديم بمساعدة لبنانية.
وإذا كان هناك حذر من السفارات والسفراء، إلا أن لسفير الفاتيكان في لبنان مكانة خاصة، وذلك لأن الكرسي الرسولي ليس دولة ذات أطماع عسكرية وسياسية واقتصادية، وهو يقف دائماً إلى جانب الشعب اللبناني.
ولا ينسى اللبنانيون عموماً وخصوصاً المسيحيين تلك الزيارة التاريخية التي قام بها البابا القديس يوحنا بولس الثاني في أيار 1997 زمن ما عُرف بالإحباط المسيحي، حين أطلق عبارته الشهيرة «لبنان أكبر من بلد إنه رسالة» والتي توّجها بالإرشاد الرسولي.
وانطلاقاً من هذه المعطيات يأتي الإهتمام الكبير الذي يوليه البابا فرنسيس بلبنان، البلد ذي الوجه المسيحي والذي يمثّل رئيس جمهوريته الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق.
ولأجل كل هذا، يختار البابا والفاتيكان دائماً دبلوماسياً رفيعاً لتمثيلهما في بيروت، وقد وقع الخيار على المونسنيور بورجيا خلفاً للسفير جوزيف سبيتاري.
وكأنّ قدر السفير الجديد، الإيطالي الجنسية، «مكتوب في عنوانه». إذ وصل إلى لبنان، بالتزامن مع انعقاد جلسة مجلس النواب التي فشلت بانتخاب رئيس الجمهورية، مسترجعاً كل الذكريات السابقة التي عاشها عندما كان مستشاراً أول في السفارة البابوية في لبنان إلى جانب السفير البابوي السابق غابريال كاتشيا من العام 2010 حتى 2013، والتي شهدت التأزم السياسي الكبير مع اندلاع شرارة «الربيع العربي» ودخول لبنان في نفق سلسلة أزمات لا تنتهي.
ويُعتبر الإيطاليون أكثر من يعرف طبيعة لبنان وتركيبته الطائفية وبنية الطائفة المارونية وعناد أبنائها، فصحيح أنّ إهتمامهم يتوزع على كل من يتبع مرجعية الفاتيكان إلا أنّ الإهتمام السياسي ينصبّ على الموارنة الذين يحملون راية المسيحيين في لبنان.
من الصعب جداً على أي دبلوماسي الإنتقال من منصب رفيع كالمنصب كالذي كان يشغله باولو بورجيا في الحاضرة الفاتيكانية (عمل في قسمي العلاقات مع الدول والعلاقات العامة التابعين لأمانة سر الدولة) التي يعتبر من أهم دبلوماسييها و»عقولها» إلى الوحول اللبنانية، لكن المرحلة تتطلّب التحدي، لذلك كان قرار البابا فرنسيس واضحاً بأن لبنان يحتاج سفيراً استثنائياً، وظيفته متابعة الإستحقاق الرئاسي قبل انقضاء مهلة الإنتخاب والدخول في مرحلة الشغور، من ثم مواكبة تداعيات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع اللبنانيين، وبينهم المسيحيون إلى الهجرة بكثافة، ومتابعة أوضاع المسيحيين والدعوة للإصلاح في الكنيسة والرهبانيات كلّها.
وهو دخل القسم الدبلوماسي التابع للكرسي الرسولي في الأول من كانون الأول 2001، وتقلب في مناصب عدة في ممثليات وسفارات الكرسي الرسولي لدى كل من: أفريقيا الوسطى، والمكسيك، والأراضي المقدسة، وقبرص ولبنان.
إرتياح في بكركي
يسود الإرتياح في بكركي جرّاء تعيين السفير الجديد، فالرجل صاحب سيرة مميزة ومشرقة، يعمل دون كلل أو ملل، يصل ليله بنهاره. لا ينام. يقلّ من الكلام. يتابع ملفاته بعناية كبيرة. يُصغي جيداً ويستمع إلى الكثير من الآراء ومهتم بوحدة اللبنانيين والمسيحيين.
وأكثر من يعرفه هو البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي يحمل راية المواجهة في هذا الزمن الصعب. وللصدفة أن المدة التي قضاها بورجيا في لبنان ترافقت مع الإنتقال الذي شهدته الكنيسة المارونية بعد تنحّي البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير وانتخاب الراعي خلفاً له.
وعايش بورجيا مرحلة محاولات جمع المسيحيين ضمن لجان في بكركي، من لجنة الأرض إلى التربية والديموغرافيا وقانون الإنتخاب، والأهم عايش إجتماعات القادة الموارنة في بكركي والذين حصروا الترشيحات بهم على قاعدة إنتخاب «الرئيس القوي».
غادر بورجيا لبنان عام 2013 أي قبل عام من الدخول في الفراغ الرئاسي في أيار 2014 وقبل 3 سنوات من انتخاب الرئيس «القوي»، أي العماد ميشال عون، وعاد قبل 10 أيام من إنتهاء ولاية الرئيس القوي ليشهد على «الجهنم» التي تشهدها البلاد بفعل العتمة والإنهيار الإقتصادي وإفلاس المصارف وضرب المؤسسات وتفلت السلاح وسيطرة «دويلة حزب الله».
لن تكون مهمة بورجيا، الرجل المعروف عنه النضال وعدم اليأس، سهلة. فالبابا إختاره ليقف إلى جانب الشعب الذي يعاني الإنهيار، وكذلك ليؤكد أنّ دولة الفاتيكان تعارض المسّ بصيغة العيش المشترك ووثيقة «الطائف» التي تنص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وحفظ دور لبنان، وللتشديد على أن الدور المسيحي يجب أن يُصان عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية وانتظام عمل المؤسسات وعدم تغيير وجه لبنان الحضاري.
ومن جهة أخرى، أمام السفير الجديد ورشة عمل داخلية. فمعروف أن الرهبانيات الحبرية تتبع مباشرةً الفاتيكان، لذلك فإن العمل سيكون لأنسنتها ووقوفها إلى جانب الرعايا ومنع إنهيارها لأنه إذا إنهارت تلك المؤسسات على اختلاف أشكالها فقدَ المسيحيون ومعهم لبنان دورهم التاريخي.
بدأ المونسنيور بورجيا مهمته، وسيباشر لقاءاته واتصالاته مع مختلف الأطراف من أجل حثهم على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في حين تستكمل الفاتيكان إتصالاتها الدولية من أجل تأمين الظروف الدولية المساعدة لتسريع إنجاز الاستحقاق.