إنهاء مناقشات الموازنة في السراي، وإقرارها اليوم في جلسة قصر بعبدا، لا يعنيان أن البلد تجاوز مخاطر الأوضاع الاقتصادية والمالية المتردية، وليس ثمة ما يوحي بأن المسؤولين اللبنانيين تفرغوا لمتابعة تطورات الأزمة المتفاقمة في المنطقة، والتي دفعت بالتوتر العالي بين واشنطن وطهران إلى ذروته.
مصداقية الموازنة، وجدّية الأطراف السياسية التي أنجزتها، تكمنان في أمانة تطبيق بنودها، والحرص الفعلي على تخفيض النفقات، بعيداً عن أساليب الالتفاف المعروفة عبر سلف الخزينة وأخواتها، والعمل الدؤوب على توفير الموارد الواردة أرقامها في الموازنة، وعدم تكرار ما حصل بالنسبة لأرقام موارد سلسلة الرواتب، التي بقي معظمها دون التوقعات المتفائلة، وغير الواقعية، فكان أن وقعت الواقعة في الخزينة، ووصلت إلى حافة الإفلاس.
كل الأطراف السياسية اعترفت بأنها لم تتمكن من التوصل إلى وضع موازنة مثالية، تأخذ في الاعتبار الواقع المفجع الذي وصلت إليه أحوال الدولة المالية، لذلك يمكن القول بأنها موازنة «ليس بالإمكان أحسن مما كان»، على أمل أن يتم استدراك ما أمكن من تخفيضات وإصلاحات مؤجلة، في موازنة عام ٢٠٢٠ التي فتح ملفها وزير المال الأسبوع الماضي.
إلا أن الملاحظ أنه رغم حدة المناقشات، وتعدد الاشتباكات بين الوزراء الأشاوس خلال جلسات السراي الكبير، فإن أحداً من الوزراء الذين يتباهون بخططهم الإصلاحية، وحرصهم على توفير الموارد الإضافية للدولة، لم يأتوا على ذكر مصادر الهدر والسرقات، وفي مقدمها التهرّب الضريبي والجمركي والأملاك البحرية مثلاً، في حين تبارى بعضهم في اقتطاع رواتب العسكريين والموظفين المتقاعدين، وتخفيف التقديمات للعاملين الحاليين، فضلاً عن فرض المزيد من الضرائب التي تطال ذوي الدخل المحدود، مثل زيادة ضريبة القيمة المضافة، ورفع الرسوم على البضائع المستوردة ٢ بالمئة، طبعاً إلى جانب نكتة الموسم بفرض ألف ليرة على كل نَفَس أركيلة، وهي وسيلة الترفيه الأساسية للشبان والمعترين، بغض النظر عن أضرارها الصحية! ومن دون أن يتبين كيف يمكن تحصيل هذا الرسم العشوائي من المقاهي، ومحلات الدليفري للأركيلة، ومدى قدرة الدوائر المالية المعنية على استيفاء هذا الرسم من كل المناطق اللبنانية، تطبيقاً لمبدأ العدالة الضريبية، الذي يعاني منذ فترة من خلل فادح في تطبيقه! وعلى كل فإن موضوع رسم الأركيلة يحتاج إلى معالجة مستفيضة لاحقاً..!
فرض الضرائب الجديدة قد يلقى صدى إيجابياً في الأوساط المالية الأجنبية، لا سيما دول مؤتمر سيدر، على اعتبار أنه يرفع أرقام موارد الخزينة، ويساعد على تخفيف العجز في ميزان المدفوعات والمالية العامة. ولكن ماذا لو اقتصر الأمر على الزيادات الضرائبية ولم يتم الالتزام بخطوات تخفيض الإنفاق ووقف الهدر ومكافحة الفساد، الذي ما زال حاضراً بقوة في مختلف الإدارات العامة؟
لم يعد سراً أن المصارف التي طُلب منها المساهمة في اكتتاب بسندات خزينة مقابل فائدة واحد بالمئة، لم تعطِ بعد موافقتها النهائية على هذه الخطوة، بانتظار معرفة جدية الخطوات التي ستتخذها الحكومة في ترشيد الإنفاق ووقف الهدر، على الصعيد العملي، وليس فقط على الورق، لأن التجارب السابقة لم تكن مشجعة، ونتائجها لم تكن على المستوى المتوقع منها، بسبب العرقلات والخلافات السياسية، المزمن منها والمفتعل، والتي أدت إلى نسف كل المشاريع الإصلاحية السابقة، على غرار ما حصل بعد مؤتمر باريس٢ عام ٢٠٢0.
ثمة ثغرات في الصيغة الراهنة للموازنة التي سيقرها مجلس الوزراء اليوم في بعبدا، يمكن إصلاحها إبان المناقشات المنتظرة في مجلس النواب، في حال صفت النيات، وإلا سنكون أمام جولات جديدة من المزايدات الشعبوية، قد تطيح بما تم إنجازه في مجلس الوزراء، على قلته!!
إصلاحات الموازنة وأرقامها ما زالت على الورق.. وبانتظار وضعها على محك التنفيذ ليظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود من مدى قدرة الدولة على النهوض بالوضع الاقتصادي والمالي المتدهور!