يعقد حزب «الكتائب اللبنانية» خلوة استثنائية اليوم لبحث أسباب «النكسة» الانتخابية وظروفها السياسية والتنظيمية، هذه الخلوة التي نجد أنفسنا معنيين فيها من خلال تقديم مساهمة من خارج النظام والأوراق الواردة، وذلك انطلاقاً من عراقة الحزب التاريخية ودوره الوطني.
مع استلام النائب سامي الجميّل رئاسة الحزب كان يفترض عملياً أن يسلك اتجاهاً من ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول ان ينقل أهداف «لبناننا» المسيحية إلى داخل «الكتائب»، فيحمل خطاباً غير قادر على مجاراته فيه رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ولا رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون سابقاً والوزير جبران باسيل حالياً، فيستقطب شرائح مسيحية ترى في «الفيدرالية» مثلاً الخلاص الوحيد للبنان، و»الفيدرالية» لا تعني معاداة المسلمين طبعاً كما هو شائع خطأ، وبالتالي يأخذ خطاً راديكالياً.
الاتجاه الثاني ان يتحلى بالواقعية السياسية فيعترف بأحجام غيره ويتعامل مع العماد عون والدكتور جعجع بكونهما يتقدمان عليه في الحجم والتجربة والسن، فيكون القوة الثالثة بعدهما وبالتكافل والتنسيق بينهما، خصوصاً انه كان أوّل من بادر إلى ضرورة توحيد الصف المسيحي والموقف.
الاتجاه الثالث ان يعتمد السياسة التي يعتمدها حالياً من دون زيادة ولا نقصان، ولكن مع فارق وحيد يتمثّل بعدم قطع العلاقات والجسور السياسية مع القوى الأخرى، فخطأ رئيس «الكتائب» مثلاً انه لم يترك بشكل أو بآخر لـ«الصلح مطرح» مع الرئيسين عون وسعد الحريري والدكتور جعجع، فيما هو ينتمي إلى مدرسة المؤسس الشيخ بيار الجميل الذي يروي عنه الكاتب والمفكر الملتزم جوزف ابو خليل انه في أحداث العام ١٩٥٧ استدعاه على أثر تعليق سياسي له في «صوت لبنان» هاجمَ فيه بحدية وبشكل شخصي الرئيس صائب سلام قائلاً له بما معناه طبعاً: الأحداث الجارية اليوم ستنتهي بعد أسبوع أو أسبوعين، شهر او شهرين، ومن بعدها سنعود لنلتقي مع سلام وغيره، وبالتالي حذار تحويل ايّ خلاف سياسي إلى خلاف شخصي.
وانطلاقاً من الاتجاه الثالث نفسه فإنّ الخطأ الثاني لرئيس «الكتائب» يتمثّل بسوء تقديره لاتجاهات الناس الحقيقية، فراهَن على موجة شعبية أطلقت على نفسها صفة المجتمع المدني، معتقداً انها ستكتسح «الأخضر واليابس»، فيما الأحزاب العريقة، كـ»الكتائب»، لا يفترض ان تتأثر بالموجات، بل أن تتفاعل معها في محاولة لاستيعابها من دون تغيير تَموضع الحزب التاريخي.
فكان على حزب «الكتائب» بكل بساطة ان يحافظ على خطابه المتمسّك بالثوابت والمبادئ الوطنية والإصلاحية، وان يبتعد عن اي مزايدة على حلفائه في المواجهة نفسها، وان يسعى إلى الشبك جدياً مع «القوات» و»المستقبل» و»الإشتراكي» و»الأحرار» و»الكتلة» وقوى المجتمع المدني، فيما خطأ الجميّل، ربما، انه قد يكون اعتبر انّ الأحزاب التقليدية، التي يشكّل حزبه عميدها، قد انتهت، وانّ الموجات المدنية الطارئة ستحل مكانها.
وما يجدر الإقرار به انّ تحالفاته مع «القوات» حصلت برغبة مناطقية لا مركزية، والقول انّ هذا الأمر انعكس سلباً على «الكتائب» غير صحيح على الإطلاق، بل التحالف المركزي كان بالتأكيد وَفّر لـ»الكتائب» نائباً في بعبدا وآخر في كسروان، فيما تحالفه مع النائب المنتخب فريد الخازن والنواب السابقين فارس سعيد وجيلبيرت زوين ويوسف خليل لا علاقة له بالمجتمع المدني.
ومن الأخطاء الانتخابية السياسية انّ حزب «الكتائب» ارتكز في خطابه على قاعدة الموالاة والمعارضة، بمعنى انه في المعارضة ولا يتحالف مع قوى الموالاة، فيما هذا التصنيف لا ينطبق على واقع الحال السياسي، لأنه لو تشكّلت الحياة السياسية بين من هو مع العهد ومن هو ضده، كان يمكن الكلام عن معارضة وموالاة، بينما لو أعطيت «الكتائب» الحقيبة الوزارية التي تريد لما كانت بقيت خارج الحكومة. وبالتالي، اي تصنيف سياسي يجب ان يخضع لقاعدة سياسية واضحة المعالم، والقاعدة التي اعتمدها الحزب إمّا غير موجودة اليوم او انها غير مؤثرة.
وكان بإمكان الجميّل ان يعتمد القاعدة التي اعتمدها جعجع، وهي التحالف مع القوى التي تشبهه سياسيّاً بمعزل عن النسبة المئوية لتقاطعه معها في ظل غياب ايّ إمكانية للتقاطع بالمطلق مع اي فريق سياسي، وبالتالي كان بإمكانه ان يتحالف مع «القوات» و»المستقبل» والإشتراكي» الذين يلتقي معهم بجوانب على رغم اختلافه معهم في جوانب أخرى.
وعلى طريقة المثل القائل «الضربة التي لا تقتل تقوّي»، فإنّ الرئيس سامي الجميّل ما زال يخوض تجاربه الأولى، وانتكاسة من هذا النوع يمكن تحويلها إلى صدمة إيجابية شرط ان يستخلص حزب «الكتائب» الآتي:
أولاً، الإقرار بحجم «الكتائب» والانطلاق منه، الأمر غير القائم حتى اللحظة، والحجم ليس بعدد النواب فقط، إنما بحجم الجسم الكتائبي على امتداد الجسم اللبناني. وبالتالي، يفترض ان يستخرج الحزب دراسة بالأرقام تحدّد حجم الانتشار الكتائبي على مساحة الـ١٠٤٥٢، والعمل على معالجة الثغرات، خصوصاً انّ حزب «الكتائب» على غرار «القوات» و»التيار الحر» ينتشر مبدئياً من الأقاصي إلى الأقاصي. فحجم «الكتائب» قد يكون ما أظهرته الانتخابات، أكثر من ذلك أو أقل، ولكن ليس هذا المهم، إنما الأهم وضع السياسة التي لم يتم وضعها مع انتخاب سامي الجميّل رئيساً للحزب، وهي الانطلاق من حجم الحزب الحالي من اجل إعادته إلى ما كان عليه في زمن غابر.
ثانياً، أظهرت الانتخابات بوضوح انّ توجّه الناس ومزاجها هو مع الأحزاب لسبب بسيط يتعدّى قانون الانتخاب، وهو انّ الأحزاب قادرة على حمل هموم الناس الوطنية والمحلية. وبالتالي، من غير الجائز أن يتخلى أعرق الأحزاب عن مقعده لمصلحة مجتمع مدني باتَ خياره الوحيد ليعبِّر عن نفسه تأسيس أحزاب جديدة، او الانتظام في الأحزاب الموجودة على قاعدة «رايحين للحَج والناس راجعة».
ثالثاً، الإقلاع عن سياسة القطيعة السياسية، والدفع باتجاه الشبك السياسي عندما تقتضي الضرورة الوطنية والمصلحة العليا ذلك، فسياسة قطع الجسور وقطع التواصل مضرّة وقد أضَرّت بـ»الكتائب».
رابعاً، الإقلاع عن سياسة المزايدة على كل الناس، واعتماد سياسة واقعية تنتقد حيث يجب الانتقاد بهدف التصويب والتصحيح، والتنويه حيث يجب التنويه.
خامساً، نسج تحالفات وطنية مع القوى الحزبية المؤثرة في الحياة الوطنية، والانتخابات الأخيرة أقوى دليل انّ المستقبل لتلك الأحزاب او غيرها طبعاً.
ويبقى انّ «الكتائب» تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة التاريخية الوطنية والمسيحية، والكلام عنها هو حرصاً على دورها لا العكس، والملاحظات أعلاه لا تنفي صفات او قدرات سامي الجميّل و»الكتائب» الكثيرة، ولكن ليس الهدف من هذا المقال الكلام عن إيجابيات الجميّل و»الكتائب»، إنما الإضاءة على الخلل الذي اعترى السياسة الكتائبية مؤخراً، وبالتالي نتمنّى التعامل مع الملاحظات الواردة، وهي من خلفيتي الصحفية والشخصية، لا موقعي الحزبي، بروح إيجابية.