من سيهجر من “الورقة” أم “الحرف”؟ ولمّا فتحت الورقة البيضاء ذراعيها لحروف الدنيا شرقاً وغرباً، أكانت تدري أنها ستبقى وحيدة ذات يوم لأن التكنولوجيا ستأخذ مكانها ناقلة بلحظات كل ما عبّأ صفحات الصحف إلى قراء الكوكب الذين انجرفوا وراء آلات ذكية ستحوّلهم مع مرور الوقت آلات تفتقر إلى الذكاء؟
ذبل ورق الجرائد وورق المجلات وورق الكتب، فالآلة الأنيقة التي تستجيب للمس الأصابع البشرية تمارس سحراً ذا حدّين، أخذ متعة شراء صحيفة تظل رفيقة من الصباح إلى المساء، تفتحها متى تشاء، ولمّا تعطيك كلما تريد تتركها في كيس معدّ لإعادة تدويرها… ويا للعجب فحتى الأخبار التي نقلت يعاد أيضاً تدويرها، فلا جديد يحمل تغييراً للأداء البشري المؤذي والمدمّر لِما “كان” في عصر بلغ ذروة التقدم التكنولوجي وذروة الانحطاط الإنساني في آن واحد، فلا توازن بين هذا وذاك.
لا أندب هنا “الورق” الذي نقل إلى ملايين البشر ما أدى الى تطوّر الفكر والمعرفة والوعي، فما زلت اشتري الجريدة والمجلة والكتاب مذ صغري. وبائع الجرائد “خليل” كان ينقل ثروات الأحرف من بيروت إلى برمانا على دراجة هوائية، ثم في سيارة، وكان اللقاء الصباحي معه ممتعاً، حاملاً جريدة “النهار” لكل أهل البيت، ومجلة “حواء” المصرية للوالدة، ومجلة “سندباد” للصغار. والى “سندباد” كنت أقرأ أيضاً مجلة “الهلال”، وروايات الهلال التاريخية التي تحكي تاريخ العرب، شاركت ألعابي في كل أماكنها، وكم أعجبتني حكايات الحب داخلها تعطّر أحداث الحروب والبغض التي ما انقضت بعد.
ولا أنسى كيف أتى خليل ذات صباح صيفي باكياً، هامساً ما أبكى والدي أيضاً، ثم والدتي، أعدموه هذا الفجر، قال، وكان أن شاركنا أختي وأنا في لقاء الدمع من غير أن نفهم أن من أعدمته الدولة كان أنطون سعادة، منفذة ما يملى عليها من الخارج، كالعادة، مثل معظم الدول العربية التابعة تنفذ مدمّرة بغباوة ما أنجز أبناء الوطن، وما من يحاسب.
وقُتل خليل بائع الجرائد أثناء حربنا الأهلية، المذهبية، المستمرة شللاً تحت وفوق الرماد، وصرنا نشتري ما نقرأ من المكتبات. واليوم يقرأ أصدقائي الجرائد الالكترونية باستثناء قلائل أنا منهم. ذبُل موسم الورق والحبر ومتعة التواصل البسيط، فالمبيعات قليلة، والناس لا يقرأون. ومتى كان العرب يقرأون؟ هم الذين يهدمون اليوم أوطانهم بأيديهم، فأي تغيير يرجى إن هم قرأوا الورق أو الآلة، وهم في سبات طويل طويل قد لا تكون بعده صحوة؟