التقى سيد قطب، مفكّر “الأخوان المسلمين”، والثورة الإسلامية في إيران، على شيء واحد خارج المُفترق بين السنَّة والشيعة: إسقاط الحدود بين أهل “الأمة”. وكانت فكرة القومية العربية وإيديولوجية “البعث” قد قامت أيضاً على إزالة الحدود. فيما الدول التي رسمَتها اتفاقات سايكس – بيكو سُميت “أقطاراً” موقتة، لا بد أن تستعيد وحدتها ذات يوم. وفيما رفَع القوميون العرب شعارات مثل “دم – حديد – نار” انتسب البعثيون إلى فكر جديد، “الاشتراكية”، التي دخلَت شعارهم المثلّث: “وحدة – حرية – اشتراكية”. وذهبَ الفكر السوري القومي في اتجاه اجتماعي وجغرافي آخر، لكنه قام في الأساس أيضاً على إلغاء الحدود ضمن بلدان “الهلال الخصيب” وخصائص دُوَله التاريخية.
وكان العصر القومي في العالم العربي، على تنويعاته أو تناقضاته أو خصوماته، مشابهاً للحركات القومية في أوروبا، أو متأثراً بها وبمفكّريها ودُعاتها. وهكذا، كان القاسم المشترك بين الجميع، أولاً، العصبية القومية، وثانياً، إزالة الحدود. وها هي الحدود تزول في بلدان كثيرة، لكن الذي يقوم بالدور فريق معادٍ ولاغٍ لجميع الأفكار والرؤى التي قامت عليها الحركات السابقة، قومية وعلمانية.
لم تكن الحدود السورية اللبنانية جديّة في أي وقت منذ استقلال البلدين. لكن التسلّل لقتل ستة عسكريين في مكمن واحد الأسبوع الماضي، أعاد إلينا أن عدم قيام دولة بلا احترام الحدود، مأساة معجّلة ومكرّرة.
التغيير الديموغرافي يغيّر جوهر الدول في أي مكان. ويثير تدفّق اللاجئين عبر الحدود العالمية حالياً، مناخاً من العداء الإنساني، يُشابه إلى حد بعيد مناخات ما قبل الحرب العالمية الثانية. خلال زيارة لأثينا، المدينة التي أحببْت مغانيها شاباً، فوجئت بحدّتها وقتومها. والعاصمة التي كانت ترقص – ومعها العالم – على إيقاع زوربا وميكيس تيودوراكيس، تردّد الآن النشيد الذي وضَعه فاشيّو “حزب الفجر الذهبي”. وقد تلاحظ أن الفاشيين في كل مكان، يُحبون هذه التمسية مثل “الفجر الجديد” في ليبيا، على أساس أن كل ما قبلهم ليل.
يرتدي شبّان “الفجر” الثياب السوداء لإخافة أعدائهم من المهاجرين. ليس على طريقة “داعش”، ولكن تشبّهاً بالنازيين القدامى. وفيما يهاجمون باستمرار العمال القادمين من بنغلادش أو أفريقيا، يضعون على الجدران والسيارات الخرائط التي تؤكّد مُلكيات الإمبراطورية السابقة، طبعاً من دون جميع فتوحات الاسكندر. الخريطة لا تتّسع.
مثلما كان النازيون يدْعون إلى صفاء العِرق الآري، هكذا كانت إسبارطة ترمي في البحر جميع المواليد الجُدد الذين يعانون من تشوّهات. وهكذا يدعو “الفجر الذهبي” إلى جيل نقيّ اليوم. وإذا كنتَ قد لاحظت أن المتطرّفين العرب يحرصون على مظهر رياضي وصدور عريضة، فإن المظهر نفسه يجمع بين أعضاء “الفجر الذهبي” أو الحركات المشابهة في بريطانيا وفرنسا. وكما ترفض “دولة الخلافة” في العراق والشام كل دين آخر، أو سلوك آخر، أو فكر آخر، هكذا تتسم الحركات الذهبية في أوروبا بظاهرة الرفض. لا مكان للآخر.
تستولد حركات مثل “داعش” ظواهر خوف مضاد في أنحاء أوروبا. لا يمكن أن أنسى ما قاله لي وزير خارجية مارغريت تاتشر، المستر دوغلاس هيرد، في نهاية مقابلة صحافية. قلت له: ألا تعتقدون إنه يجب التعجيل في حلّ القضية الفلسطينية لئلا يصل العنف إلى شوارع أوروبا؟ قال المستر هيرد، وهو يشدّ على يدي بقبضة هائلة: “نحن نبدأ نخاف عندما يختار الأوروبيون الإرهاب”.
يبدو أن مسألة الحدود الزائلة لا تُناسب أحداً. بريطانيا تُعيد النظر في كل الفكرة الأوروبية على رغم كونها جزيرة شبه مُحصنّة. وجادّات باريس ومحطات القطار فيها لا تعرف كيف تواجه مشكلة الغجَر القادمين من رومانيا وهم يُجيدون مهنة تاريخية واحدة: الاستعطاء. والغجر المتربّعون في الشانزيليزيه، يختلفون تماماً عن أولئك الذين غنّت لهم جولييت غريكو أو شارل أزنافور. لا رومانسيات في هذه اللُجاجة البائسة على الأرصفة.
العالم الذي نحن فيه هو نتاج النظام الذي أقمناه من حولنا. الفكر القومي، على اختلافه، وضعَه مفكّرون كبار وإنسانيون، وتولاّه فاسدون وجلاوزة وقُساة. وبدل تحقيق الحلم، أو شيء منه، انتشرت الخيبات في كل حقل: في الحرب وفي السلم، وفي النمو وفي العلم، وكل شيء آخر. أخذت الأنظمة الحريّات والرفاه والكفاية والطمأنينة ولم تعطِ مقابلها سوى الخيبة والقهر والخوف.
كان واضحاً للمُدركين أن هذا ما سوف تؤول إليه حال الأمة بعد عقود من حظر الفكر وطمس الآفاق وحظر النقاش. “فالمهزومون أول من يُدرك ماذا يخبّئ لهم التاريخ”. وعندما هُزمت الدولة اللبنانية تكراراً تحت رايات مختلفة، كنا نُدرك جميعاً أن فسيفساء متفجّرة سوف تمتدّ على مدى الخريطة، التي لم يعد أحد يتذكّر مساحتها، خجلاً وحياء. خرقة بالية وأعلام كثيرة.
نعود دوماً إلى الماضي لشدة ما يذكِّرنا الحاضر بالسقوط. بعد انهيار بيزنطية، أخذ الجميع يعودون إلى كتّاب اليونان القدماء. موجة المراثي التي تلقّاها سعيد عقل لم تكن احتفاءً به بقَدَر ما كانت حُزناً على سقوط بيزنطية. يعود الناس إلى شعرائهم كلما تفقّدوا بقايا أحلامهم المتناثرة على الأرض. حزنوا على أنسي الحاج لأنه كان، بلا كلَل، الجرس المحذِّر من الرماد، والصوت الصارخ في وجه التقهقر. توقيف مطلقة البغدادي كان مَدعاة خوف وفزَع بين الناس. يخافون ألاّ يكون في طاقة الدولة تحمّل عبء القانون. ولذلك، يفضّلون، بحكم التدجين، أن تقدّم المزيد من الأضاحي لئلا تُغضب التنّين الجائع.
أصبح ذلك عادة قديمة في النفوس الفاقدة الركائز التي يستند إليها عادة الخائفون. لم تعد تعرف مما وممن تخاف، وما إذا كان المجهول أكثر فظاعة من المعلوم. يزيد خوف الخائفين أن “اللبننة” التي كان يريد سعيد عقل نشرها في العالم فكراً وهندسة، تعمّمت الآن في أكثر بلاد العرب، حروباً أهلية وحواجز هويات ومناطق فاصلة و”خطوطاً خضراً” بألوان حمراء داكنة. تتفكّك دول الوحدة الكبرى في دمشق وبغداد، فيما يتولّى أمور الحرب وقرار السلام، أمبراطوريو الماضي ما بين طهران وأنقرة. تخرج آثار سايكس وبيكو لتدخل ذكريات داريوس والسلطان سليم. ولا يتردّد رجب طيب أردوغان لحظة في تدشين “بابٌ عالٍ” جديد، أضخم من البيت الأبيض وفرساي.
يتنقّل المهزوم، مثل المَنفي، من اللامكان إلى اللامكان. تطلّع جوزف غوبلز إلى المفكّرين والإنسانيين والخائفين على ألمانيا وعلى العالم، وقال إنهم “جثث في إجازة”. هكذا نظرَت الأنظمة العربية إلى شعوبها. غلّفت الانقلاب بقناع الثورة، ووَعَدت بكرامة لا رغيف فيها ولا كفاية، وفيما قلّدت الاتحاد السوفياتي بشاربي ستالين ومنافي سيبيريا، فاتَها أن تقلّده في الصناعة ونشر العلوم وتوفير الطبابة والوظيفة وأوسع مكتبات العالم.
لم يكن قسطنطين زريق وميشال عفلق وأنطون سعادة وزكي الأرسوزي وعبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري وناصيف اليازجي، يفكرون بأن الحُلم العربي سوف ينكسر ما بين بغداد والشام بهذه الطريقة. أو على هذا النحو. ولم يكن أحد يعتقد أن جيش لبنان سوف يُقتل يوماً في مكمن أو يُخطف في مكمن، أو أنه سوف يُصبح رهينة أحد. أما الآن فمن نهر البارد إلى جرود عرسال يخوض حربه وحروب سواه ويقع في الغدْر والجريمة.
سقطت القسطنطينية ليس فقط بسبب مثابرة محمد الفاتح، بل بسبب النزاع بين أهل الإمبراطورية. هكذا أيضاً سقط الأندلس، أجمل تجربة عربية في الحكم. يجتاح “داعش” عواصم وحواضِر الأمويين والعباسيين، بسبب أربعين عاماً من نزاع البعثين في بغداد ودمشق. بسبب الصراع الضّحل بين الناصرية والبعث. بسبب الأنظمة التي لم تقدّم لشعوبها سوى الخيبة والهزائم والفقر والقهر. ولأن سيدة اللغات صارت سيدة العَلك. وعندما سقطت جميع المقاييس والمعايير، أطلّت “داعش” بتفاسيرها لإحياء الأمة. طريق الجنّة رايات سود.