Site icon IMLebanon

مفارقات بين التحركات الشعبية العربية والإيرانية

 

كأنّه موسم التحركات المطلبية يزدهر في بعض البلدان العربية، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية، والمعيشية والخدمات الاجتماعية، وصولاً إلى النقابية، تجسّدت في تظاهرات من تونس العاصمة إلى الأطراف والأرياف، والجزائر والسودان.. من دون أن ننسى لبنان وسواه.

 

وقد تزامنت هذه الاحتجاجات الشعبية مع انتفاضة أخرى أكثر راديكالية، من زميلاتها العربية، في إيران، حيث تحوّلت هذه التظاهرات التي عمّت طهران وعدداً كبيراً من المدن والدساكر، إلى جانبها المطلبي اليومي المتّصل بحاجات الناس، ومشاكلهم، المعيشية، صرخةً ضدّ النظام كلّه، نظام الملالي، وعلى رأسه المرشد الأغلى والأعلى خامنئي، وامتداداته السلطوية، والمالية والأمنية الفاسدة، من أهل النظام، الذي، وبحسب الاحتجاجيين، يسرقون ثروات البلاد، وخيرات الناس، ليشكّلوا «طبقة أرستقراطية» فاحشة الثراء، مقابل طبقة أو طبقات سفلى تعاني الفاقة، وتفتقر إلى المقومات الأساسية لعيش مقبول أو كريم.. من دون أن ننسى تعرّض الاحتجاجيّين، لدور إيران الخارجي في سوريا، ولبنان، والعراق واليمن «اخرجوا من لبنان ومن سوريا.. واليمن» (هتفوا). وهذا يقود طبعاً إلى إدانة النظام، من «عليائه» إلى أسافله، ومن مرشده وصولاً إلى الرئيس روحاني.. من دون توفير الإصلاحيين.

 

هذا هو الجديد، الذي يميّز التحركات الشعبية العربية، التي لا تستهدف، أنظمتها، ولا حكّامها حتى الآن، على عكس ما ظهر في شعارات المتظاهرين الإيرانيين، من دعوة إلى سقوط «الدكتاتور والقاتل» أي المرشد، وسقوط مؤسسات القمع (خصوصاً الحرس الثوري الذي ينهب نصف ميزانية البلاد، بلا حسيب ولا رقيب).

 

لكن إذا استعرضنا وقائع هذه المستجدات، سواء من طبيعة التحركات، أو ردود فعل السلطة، في البلدان العربية التي هي مسرح للأحداث والمدن الإيرانية، فهل من قواسم مشتركة، أو مشابهات، أو تماهيات؟

 

ما يجمع المجريات في بعض البلدان العربية، يمكن اختزاله إما «باحتجاجات» الرغيف (تحديداً السودان حيث رفع ثمن الرغيف جنيهاً واحداً، وزاد الوطأة الثقيلة على وضع الفقراء)، وكذلك تونس، والمتصلة أزماتها بموازنات عام 2018 والضرائب والزيادات التي فرضت على مواد استهلاكية تصيب كل الناس لا سيما الشرائح الفقيرة، المحدودة الدخل. والسودان، والجزائر التي تشهد منذ أيام تحركات حاول فيها «الأطباء المقيمون» الخروج في تظاهرة في العاصمة، التي بدأت قبل شهرين للمطالبة بإلغاء الخدمة المدنية، والخدمة العسكرية..

 

تصادمات

 

في الأقطار الثلاثة، أدت التظاهرات إلى تصادمات مع الشرطة، أحياناً عنيفة، وأخرى أقل عنفاً، أسفرت عن مقتل متظاهر في تونس اختناقاً بالغاز، إلى زجّ أعداد في السجون (نحو 300 من كافة أماكن الاحتجاجات)، وهذا يعني أن هذه التظاهرات، بنتائجها المحدودة نسبياً وبتوجّهاتها المطلبية المحدودة، والمحددة، وما أسفر عنها، من صدام وردود فعل ورشق بالحجارة، واستخدام قنابل الغاز، تبدو إلى حدّ ما «طبيعية»، نسبياً في مثل هذه المناسبات. لم يسقط «قتلى» وإن سقط جرحى، فحالاتهم، كما علمنا وقرأنا، غير خطرة.

 

ونظن، أنّ ردود فعل السلطات في السودان، وتونس والجزائر، تشابهت، من حيث اقتصارها على «إدانة» العنف، والتخريب أو السّرقة، خصوصاً من قبل المتشددين الذين تسللوا إلى المظاهرات، أو تجاوز بعض الحدود، من دون أن تصل إلى نقطة الانفصال، أو القطيعة، أو مستويات التخوين، ونظرية المؤامرة الخارجية، واتهام المتظاهرين بالعمالة، أو بقبض أموال من الخارج، أو تنفيذ أجندة «الأعداء».

 

فرئيس وزراء تونس يوسف الشاهد طالب بـ«التهدئة»، واعترف بأنّ «الوضع الاقتصادي في تونس صعبٌ حالياً وسيتحسّن خلال هذا العام»، وأبدى استعداد الحكومة للاستماع إلى أي شخص و«من يريد التظاهر فليتظاهر سلمياً، فنحن معه ونحميه».

 

«ثورة الخبز» في السودان، تظاهر مئات المواطنين والطلاب في جامعة الخرطوم ورشقوا قوات مكافحة الشغب بالحجارة هاتفين «لا لارتفاع أسعار الطعام».

 

ردود السلطات كانت إلى حدٍّ كبير ليّنة وحتى وَدودة، خلت إلى حدٍّ كبير من التصادم الكبير، الذي قد يحوّلها «ثورة»، أو انتفاضة شاملة على الأنظمة..

 

بول شاوول

 

المقارنة

 

لكن إذا قارنّا، كل هذا، بما جرى وما زال يجري في إيران، فالأمور تبدو مفارقة. فإيران عرفت ثورة 2009، رداً على تزوير الانتخابات، وقد حشدت مئات الألوف خصوصاً في طهران، وكان رد النظام باعتماد كل الأساليب القمعية، من قتل، واعتقالات، لم ينجُ منها حتى الزعماء الإصلاحيون (كروبي، موسوي).. وصولاً إلى رفسنجاني، المرميّون حالياً في الإقامة الجبرية، أو الذي رحلوا (كرفسنجاني) قبل عام، وها هو ابنه مشكّكاً بموت والده، يُطالب بفتح التحقيق بالظروف، والأسباب التي أودت به. فارتدادات أحداث 2009، وإن وُئدت، ما زالت جروحاً في الواقع والذاكرة، وبعد نحو 9 سنوات، ها هي انتفاضة أخرى، انطلقت هذه المرّة من الأطراف الفقيرة، (كانت معقل أهل السلطة، لا سيّما أحمدي نجاد)، لتعمّ عدداً من المدن، وصولاً إلى طهران.

 

«الفساد» عنوان الاحتجاجات، أي أنّ المنحى الاجتماعي هو بوصلة الميدانين، (في 2009 الفساد السياسي). في الأولى انحصرت التحركات في طهران، أما في الثانية، اليوم، فقد عمّت هذه التحركات مدناً ودساكر لم تكن في الحسبان. هنا، بالذات، ومع توسّع جغرافية الامتدادات الشعبية، تمدّدت المطالب إلى إسقاط النظام كله، النظام الذي ثبّته الخميني وكرّسه خامنئي، بظواهره الداخلية، والخارجية (الحروب الإيرانية على دول الجوار)، وتورطها في خصوصيات شعوبها، وإرادتهم. رفض الاحتجاجيون هذه التدخلات التي كبّدت الخزينة، مليارات الدولارات «سدىً» وحرمت الناس من تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. الحصيلة حتى الآن: 45 ألف معتقل في السجون الإيرانية، عشرات القتلى والجرحى، لكن كيف ردّ النظام وأقنعته على هذه الصرخة الطويلة التي تمرّدت على كل ما سبقها من قوى (إصلاحية) أو محافِظَة، وكأنّها يئست منهم كلهم، روحاني أحال سبب الاحتجاجات على الوضع الاقتصادي، والاجتماعي، «مبرّراً» بخجل مثل هذه التحركات الشعبية. لكن بعض الإصلاحيين حتى المعتقل بعضهم في الإقامة الجبرية كالرئيس خاتمي ندّد بهؤلاء المنتفضين متّهماً إياهم بإحداث التخريب والفوضى.

 

لكن كل ذلك، يبقى معلّقاً بانتظار موقف المرشد، رأس الفساد، والقمع، والإعدامات، «الثمل» بالفتوحات ومعها بعث الامبراطورية القديمة. فالمتظاهرون طالبوا بسقوطه «الدكتاتور» و«القاتل» وكذلك بالبنية السياسية والأمنية برمتها.

 

الناس، بعد إيكال الحرس الثوري قمع التحركات، بأقسى الطرق وأبشعها، وبعد إعلانه قبل أيام «القضاء على الفتنة» و«المؤامرة» (والمظهرات ما زالت ناشطة حتى الآن)، الناس تنتظر موقف كبيرهم كلّه (تقدّر ثروته وثروة المقرّبين منه، وعائلته بمليارات الدولارات).

 

نذكر هنا، أنّ الساحة الإيرانية شهدت بعد 2009 تحركات شعبية في إسلام شهر و«مشهد» احتجاجاً على التضخم المالي، وفي عام 2000 نظّمت نقابات سائقي الباصات إضرابات، وكذلك في السنوات التالية لكن السلطة تجاهلتهم، ومنعت كل تغطية إعلامية لهم. كأنّ المطالب المعيشية للطبقات السفلى من آخر همومهم. على أنّ هذا التراكم على امتداد 40 عاماً من القمع والنهب، خلق «طبقة أرستقراطية من المواطنين المستفيدين، والنهّابين، وطبقة سفلى تحتيّة. فهل يمكن القول هنا إنّ ثمة حرباً «طبقية» (اجتماعية) وراء كل هذه الاحتجادية: طبقة «السلطة»، وطبقة الفقراء والمعوزين؟ سؤال يحتاج إلى مزيد من الأسئلة والمقاربة.

 

الفساد

 

فالفساد لم يعد مخفياً وراء القصور، وخلف قسمات آيات الله الذين يمارسون حياة الأمراء والأثرياء بكل ما يعني ذلك. يقول الصحافي أمير أحمدي اربان في «نيويورك تايمز»: «اليوم هنا طبقات الأغنياء بثرواتهم ومظاهرها الفاقعة، وظهورهم الوقح على الملأ، غير عابئين بالفئات المحرومة التي تراهم في الشوارع بسياراتهم الفارهة، وغناهم الفاحش». و«هناك تبييض الأموال في دبي وتورنتو: حفنة من طبقة إقطاعية (دينية)، ارستقراطية، تختزل في أيديها ثروات البلد: سيارات آخر طراز بورش، مازاراتي، مارسيدس، تجوب شوارع طهران بكل أبهة. ويرى الإيرانيون في وسائل اتصالاتهم صور تلك العائلات المرفهة حتى البطر، ووجهاء السلطة يشربون الكحول، ويرتادون الشواطئ في أغلى مدن العالم.. في الوقت الذي تعتقل فيه بناتهم إذا ارتخى حجاب الرأس ولم يستر كل شعرها، ويزجون أبناءهم في السجون لمجرد شراء شيء من الكحول».

 

الأخ الأكبر

 

مقابل هذا الواقع، وبعد كل التظاهرات، والقتل، والضرب والاعتقال، ماذا يقول، «الأخ الأكبر»، أو «المرشد الأكبر». أخيراً نطق وليته لم ينطق. سحب اسطوانته المشروخة (وهي اسطوانة الطغاة الأبدية)، وأعلن بكل كبرياء، وعفة وطهر، وحسم ووطنية «أنه أحبط مساعي الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وصولاً إلى مجاهدي خلق (المنافقين)». إعلان المنتصر على شعبه وهذا من قرائن ولدهم المدلل بشار الذي يحقق كل يوم انتصاراً على شعبه بسلاح إيران وروسيا والميليشيات الأفغانية و«حزب الله» و«الحرس الثوري»؟. ولم يتورع هذا «الوَرِع»، من توصيف «الاحتجاجات باللعب بالنار»، واتهام المحتجين بالإساءة إلى الإسلام والقرآن وإحراق علم بلادهم وتدمير مسجد (كم مسجداً دمرتم في سوريا والعراق يا خامنئي)، مستخدماً «التكفير» سلاحاً دينياً، و«العلم» ذريعة «وطنية» سيادية!.. ولأن اسطوانته تدور من تلقائها فقد تحدث خليفة الخميني (أعزّه الله)، عن «خطة أميركية وصهيونية وضعت قبل شهرين من بدء التظاهرات في المدن الصغيرة والتقدم باتجاه العاصمة». مندداً «بزمرة المنافقين الإرهابية: مجاهدي خلق» (الذين ساهموا مع الخميني في إسقاط الشاه، ثم كفّرهم هذا الأخير وقتل عشرات الألوف منهم).

 

عفواً، نسينا أن مرشد العفة كرّر أيضاً لازمة «إن الشعب له الحق، في المطالبة بحقوقه، وحتى الاحتجاج على الفساد وغلاء المعيشة»، لكن الشعب هذه المرة، نفذ مؤامرة على النظام خدمة للأعداء!

 

خطبة القمع

 

فمن خلال «خطبة القمع» المفوهة، المهدّدة، المخوّنة، المكفّرة، التي تبرّر الممارسات القمعية الدموية والاعتقالات، وتنفي أي «إرادة» داخلية بالتحرك، يمكن أن نقارنها بمواقف مسؤولي الدول العربية التي ما زالت مسرح احتجاجات معيشية. فهؤلاء، لم يتهموا المتظاهرين، بتنفيذ مخطط خارجي، ولا بانتهاك الإسلام، أو الأديان، ولا بإسقاط النظام.. ولم يعمد هؤلاء من خلال قواهم الأمنية إلى التمادي في مواجهة التظاهرات كما فعلت السلطة الإيرانية. وهذا يعني اعترافهم بحق شعوبهم بالتعبير عن آرائهم، ومواقفهم، حتى ضمن تحركات ميدانية، كما هي الحال في السودان والجزائر وإلى حد في تونس وإن تفاقمت الأوضاع حالياً، واشتدت المواجهات (بلغ عدد المعتقلين في تونس 260 شخصاً. في إيران 45 ألفاً). ونظن أنه في الوقت الذي لم يستفد فيه «الملالي» ومرشدهم من دروس الربيع العربي، ولا من ثورة 2009، أو التحركات الشعبية المحدودة التي تلت، فالمسؤولون العرب، (على تواريخ بعضهم بالقمع)، تجنبوا «المغامرة» الخطرة، المتمثلة بإنهاء التظاهرات بالقوة الغاشمة، أو وصمهم بالخيانة، أو الكفر، أو العمالة. ذلك أن تونس هي التي افتتحت الربيع العربي، وأسست وما زالت تؤسس نظاماً متوازناً يحفظ ديموقراطية ولو نسبية، وإن بدا أن الوضع الاقتصادي الصعب لم يفِ بانتظارات الناس. والجزائر عرفت في التسعينات أحداثاً واجهت فيه السلطة الحركات الإسلامية الإرهابية المتطرفة، وأدى ذلك إلى سقوط مئات ألوف القتلى. فالناس لا تريد، ولأسباب اجتماعية، استعادة ذكرى إسقاط النظام، أو ضرب الدولة. وكذلك المسؤولون: فالمظاهرات والاحتجاجات إذا بدأت، وطالت، فمن شأنها أن تتحوّل تمرّداً على كل شيء..

 

وهذا بالتحديد، ما حصل في إيران، حيث أن «القوى الشبابية» فقدت ثقتها بكل الطاقم الإصلاحي والمحافظ، المعارض والموالي.. وها هي ترفع شعار «إسقاط النظام»، لكن هذا النظام الأصم، الأعمى، ذا العقل الحجري، ما زال على مواقفه البائدة.. يرفض إخلاء سبيل المعتقلين وجلهم طلاب، ويقمع أهاليهم الذين يطالبون بمعرفة مصير أبنائهم، وبإخلاء سبيلهم، ويواجههم على باب السجون، بالضرب والإهانة وحتى بالقتل!

 

هل انتهت في إيران؟ لا! فإذا كانت هذه الانتفاضة الجديدة من إرث 2009، بخروجها الشجاع، فإنها ولو لفظت هذا الإرث، ستبقى حافزاً متجدداً تستكمل فيه ما بدأته: إسقاط النظام الإقطاعي الارستقراطي الديني، بظواهره، وجذوره، وعتماته العميقة.