مع تعاظم اقتراب الموعد المحدد للانتخابات يزداد منسوب «اللامعقول» في تناول موضوع قانون الانتخاب.
ذلك ان مشاريع القوانين الممكنة ليست اثنين وثلاثة: يمكن اقتراح مشاريع قوانين لا عد لها ولا حصر، والى ما لا نهاية. والبلد لا ينقسم فقط اليوم حول المشاريع الانتخابية من ناحية ان كل واحد يتمترس وراء ما يناسب مصالحه الانتخابية منها.
هو ينقسم «طوطمياً» أيضاً بين هذه المشاريع: بمعنى ان كل واحد يتمسّك بـ «قانونه» ليس فقط لأن هذا القانون يعطيه أكثر من سواه، بل لأن هذا القانون هو الذي تبنّاه، وطرحه. وهذا الافراط في التبنّي، وفي الشعور بأنه اما هذا القانون او لا أحد، يزيد من صعوبة اتفاق الأطراف الأخرى على هذا القانون. «لماذا نمشي بقانونك وليس بقانوني؟»، نعم، ثمة شيء من هذا في المعضلة الراهنة. لا تختزل المعضلة اذاً في ان كل فريق يريد المشروع الذي يعطيه أكثر.
جانب اساسي من المعضلة قوامه ان كل فريق يريد المشروع الذي يعطيه «براءة اختراع» قبل كل شيء آخر: الذي يجعله يبدو كفريق متقدّم في الهندسة «التشريعية». حيوية كابحة، بالنتيجة: «هذا هو القانون الأفضل، لأني أريده، ولأنك ترفضه»!
فاذا كان المطلوب ان يقوم كل واحد في هذا البلد باقتراح مشروع قانون، ويصار بعد ذلك الى حصاد ايجابياته وسلبياته، لن ننتهي قبل اعوام، واساساً لم نفرغ من ذلك منذ ربع قرن، منها احد عشر عاما بعد انسحاب الوصاية السورية، ومنها اربعة اعوام هي عمر التمديدين للمجلس النيابي الحالي، ينوجد فيهما البلد رسمياً في وضع «المتفرّغ» لأبحاثه النظرية، بغية ايجاد القانون العادل الفاضل الشامل الذي يراعي صحة التمثيل ويحقق وحدة المعايير والذي يمكن ان تطمئن اليه كل الأطراف. وربما هنا طرف من المشكلة ايضاً: فهل هناك تلميذ يطمئن للامتحانات بالمطلق؟ ام ان الامتحانات هي ما يستعد لها التلميذ باستعداداته؟ كي يبقى الامتحان امتحاناً ينبغي ان لا يطمئن له التلميذ. لن يحتفظ الامتحان بصفته ان حصل التلميذ على الأسئلة التي ستطرح عليه مسبقاً. المضحك المبكي في أوضاعنا اننا نريد امتحاناً معروفة أسئلته مسبقاً، ومعروفة الاجابات مسبقاً، وان نصححه بأنفسنا، ونجعل من هكذا مواصفات معايير لصحة التمثيل!
وكلما اقترب موعد الامتحان يزداد هذا «اللامعقول» بطبيعة الحال. فبدل المنافسة الانتخابية على خيارات سياسية، تتخذ هذه الخيارات السياسية شكل منافسة على القوانين الانتخابية. وكلما اقترب موعد الاستحقاق «النظري»، وموعد انتهاء مدة التمديد الثاني للمجلس النيابي الحالي «العملي»، كلما زادت الحاجة لاقتراح المزيد من مشاريع القوانين، وكلما تناقصت المساحة للالتقاء على قانون بعينه منها، وكلما زاد الاصرار بأن لا عودة لأسئلة الامتحان الماضي، قانون الستين، وبأن لا مهرب من الامتحان في نفس الوقت، في عبثية التوجه لامتحان من دون أسئلة.
انها الى حد كبير «لعنة النسبية». فبعد ان كنا نناقش في طريقة ادخال النسبية الى قانون الانتخاب، وكيفية الخلط بينها وبين التصويت الاكثري، او كيفية التناسب بينها وبين نسبية التوزيع الطائفي والمناطقي للمقاعد، او كيفية التناسب بينها وبين الكوتا النسبية، صرنا عملياً نناقش في كيفية «التمثيل النسبي» لمشاريع القوانين الانتخابية المطروحة في قانون الانتخاب العتيد، المنتظر ان يهبط علينا بصحة التمثيل، ووحدة المعايير، وتجديد النخب السياسية.
من وراء كل هذه العبثية، يناقش البلد ليس في قانونه الانتخابي فقط. بل في قانونه الدستوري بشكل عام. كلما زاد الغموض في القانون الانتخابي، زاد القانون الدستوري نفسه غموضاً. انها لعيّنة نموذجية ما حصل قبل يومين، حين قادنا الاستطراد في بحث قانون انتخاب مجلس النواب الى «نقطة» مجلس الشيوخ ومن يرأسه، وقبل ذلك كانت عيّنة نموذجية أخرى تمثلت بمسألة التوقيع على دعوة الهيئات الناخبة. وفي كل مرة يتبين لنا ان حجم «المجهول» المتعلق بالدستور وكيفية قراءته وتطبيقه، والمرجع الصالح للنظر في امر هذه القراءات، وبالتالي تفسير النص الأساسي، لا يقل عن معضلة الاتفاق على قانون جديد للانتخاب.