«تكرار الكوارث معلّم» حسب مثل أميركي. لكنّ تكرار الشغور الرئاسي على نحو منهجيّ بعد كل ولاية من ثلاث، لم يعلّم الجميع الدرس الحقيقي. وبقي الذين تعلّموا الدرس خارج القدرة على تغيير الواقع، والذين خطّطوا للمأزق مصرّين على الرغبة في الحفاظ عليه. ولم يتحرّك أي شيء عندما اقترح متضامنون مع لبنان إجراء تعديل دستوري يحول نهائياً دون الوقوع في مأزق الشغور. فليس من السهل، ولو عبر تعديل دستوري صعب، إعادة الانتظام الى آليات النظام.
ذلك أن المشكلة هي الانحراف السلطوي في ممارسة السياسة بالعصا. فاللعبة الديمقراطية معطّلة. وانتخاب رئيس للجمهورية لم يعد مرتبطاً بالدستور والمهل وانتهاء الولاية بل بالحسابات المحلية والإقليمية والدولية في لعبة المصالح والصراعات الدائرة والصفقات المفترضة. صحيح أن الاستحقاق الرئاسي كان منذ الاستقلال مرتبطاً بقرار خارجي وقبول داخلي ضمن الظروف من حوله. لكن الصحيح أيضاً أن أصحاب القرار وأهل الحسابات ظلوا حريصين على احترام المهل الدستورية وإجراء الانتخاب خلالها. وأبرز ما وراء المتغيّر الكارثي عاملان: أوّلهما تبدّل النظرة الاستراتيجية الى موقع لبنان ودوره في الصراع الجيوسياسي. وثانيهما تعاظم الخلل في التوازن السياسي الداخلي بسبب الديموغرافيا والسلاح، وتوظيف الخلل في تقدّم مشروع إقليمي على حساب مشروع الدولة. فالفارق كبير بين نظرة إيران الى موقع لبنان ودوره ورهانها على «حزب الله» وبين نظرة الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين ورهانهم على القوى القريبة منهم. الجمهورية الإسلامية في إيران هي صاحبة أكبر استثمار إيديولوجي وسياسي وعسكري وأمني ومالي في لبنان كما في اليمن والعراق وسوريا. والأشقاء العرب والأصدقاء الدوليون يكتفون باستثمار محدود في الحفاظ على الأمن عبر دعم الجيش وقوى الأمن والأجهزة الأمنية، مع تقطير مالي، ونَفَس سياسي قصير وشيء من المزاج، ورهان قلق على القوى القريبة منهم والمتباعدة بين بعضها بعضاً. وأكثر ما ينطبق على مواقفهم هو تقليد سياسة باراك أوباما المسمّاة «القيادة من المقعد الخلفي».
وليس التوازي بين قوى «الممانعة» وقوى المعارضة «السيادية» في إعلان القدرة على تحمّل الفراغ ضماناً لنوع من التوازن في تحقيق الأهداف. فالشغور الرئاسي المستمرّ على سطح أزمات مالية واقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة يعطي قوى «الممانعة» حرية حركة أكبر في التسلط داخل السلطة وخارجها. وهو يخدم «محور المقاومة» ومخطط «وحدة الساحات» ضمن المشروع الإقليمي الإيراني، في حين أنه يقضي على مشروع الدولة الذي يعمل له «السياديون».
والدرس الذي على كل القوى تعلّمه هو قول مسؤول سياسي في جنوب أفريقيا: «الشعارات والإيديولوجيا تؤخذ في الاعتبار إذا كانت الحاجات الأساسية للناس محل اعتبار».