على رغم كلّ الحركة السياسية التي تعكسها اللقاءات العادية والطارئة، يَبدو أنّ رئيس الحكومة تمّام سلام قد تُرك وحيداً في مواجهة الأزمة الحكومية بوجوهها المختلفة. فسِلسلة الاجتماعات لم تناقِش في صلب ما هو مطلوب لتوفير المخرَج للقادة العسكريين تمديداً أو تعييناً، ولا مِن أجل بَدء مرحلةٍ انتقالية لنهايةٍ حتمية لملفّ النفايات. فما هي الدلائل على هذه المعادلة؟
حتى ليل أمس لم يكشف سلام حقيقة الشعور بالمرارة التي يعانيها نتيجة الأزمات التي تواجه حكومة «المصلحة الوطنية» من أهل بيتِه ومِن خارجه. فهو يخفي في قرارةِ نفسه كثيراً ممّا لا يريد قوله في هذه المرحلة بالذات مفَضّلاً «العَضَّ» على الجرح إلى أن «عيلَ الصبر مِن صبره» ولكن إلى متى؟
يَعترف أحد أقرب المقرّبين منه أنّ تسَلسل الأحداث جعلَ مِن التركيبة الحكومية الهشّة ضحيةَ نزاعات كبيرة جعَلت من حكومته مسرَحاً للمواجهة خوفاً مِن أن تأخذ الأمور طابعاً أمنياً سَلبياً لا يريده أحد مِن الداخل والخارج معاً، أو طابعاً سياسياً أكثر حدّةً بين المتقاتلين نيابةً عن المحاور التي تتقاذف المنطقة وتترجمُها يوميات الحرب السورية وما سُخِّر لها من قدرات وأسلحة تدميرية تَمحو مدُناً وقرى عن الخريطة الجغرافية السوريّة في مقابل الأزمة السياسية في لبنان التي استعصَت على كلّ الحلول، نَظراً إلى حجم الخلافات بين الأطراف اللبنانية التي لجَمتها ضغوط خفيّة كبيرة منعَت عودةَ لبنان، كما كان في العقود الماضية، مسرَحاً شبيهاً بالمسرح السوري الدموي.
بهذه البساطة تكرّس الوقائع السياسية هذه المعادلة التي يترجمها جدلٌ بيزنطيّ لا يمكن أن يثمرَ حلولاً لأيّ مِن العقَد المتحكّمة بمصير الحكومة، مِن آليّة العمل الى استعادة مرحلة الإنتاج المفقود، وصولاً الى الجمود السياسي الذي ترجَمته مناقشات عقيمة انتقلت من النقاش حول مصير التعيينات في المواقع العسكرية وصولاً الى صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، إلى آليّة العمل الحكومي، واتّخَذت من النزاع حول مصير النفايات شَكلاً من أشكال الحرب الباردة اختلطَ فيها حابل الحلفاء بنابل الخصوم، فكانت الحكومة من أولى الضحايا وتحوَّلَ اللبنانيون الذين غمرَت النفايات السامّة شوارعَهم وأحياءَهم، أدواتها، بصرفِ النظر عمّا يمكن أن تتركَه هذه الظاهرة من أضرار صحّية وبيئية لا يمكن تجاوزُها بسهولة، عدا عن أضرارها البالغة على صورةِ البلد في عيون أبنائه المقيمين والمغتربين وهو يستعدّ لفصلِ صيفٍ كان واعداً.
قد يَعترض البعض على هذه الصورة السوداوية التي رسَمتها التطوّرات الأخيرة، لكنّه واقعٌ لا نقاشَ فيه، ولا مبرّر له سوى أنّه شكلٌ مِن أشكال النزاع الخفيّ على مصير مئات المليارات من الليرات المخصّصة لهذا القطاع وتصبّ في قنوات عدة تتزعّمها شركة لها رئيس مجلس إدارة ومدير عام واحد يشَكّل واجهتَها، لكن من الصعب فهم كيف توزّع الأرباح فيها في أكثر من اتّجاه وربّما سيظهر يوماً أنّ المنتفعين منها يشَكّلون شبكةً عابرةً للطوائف والأحلاف السياسية والطائفية والمذهبية.
في الأمس القريب ظهرَت بوادر الأزمة من زاويتين: واحدة عبَّر عنها رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل الذي تحدّثَ نيابةً عن سلام وما يَختلج صدرَه من معاناة لم يبُح بها، وعن اقتناع اللبنانيين جميعاً وحجم فهمهم لحقيقة ما تخَبّئه الأزمة على طريق البحث عن مصير المليارات المغمورة تحت أكوام النفايات.
وما في آليّة معالجتها من سَلبٍ لأموال الناس وحصَص البلديات التي خُصّصت لجَمعها وكنسِها في عملية بلغَت كلفتُها أضعافَ ما يجب أن تكون عليه مادّياً ولتُعبّرَ عن حجم النزاع السياسي على تركة «سوكلين» بين أهل البيت الواحد ومن الجيران من «14 و8 آذار» وما بينهما من مستقلّين، سواءٌ جرى تعويمها أو تقاسَم نفوذها وأرباحها عبر شركات جديدة ترغَب في دخول سوق النفايات على رغم حجم الروائح الكريهة المنبعثة منها.
والزاوية الثانية عبّرت عنها الجولة التي بدأها نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع سمير مقبل على القيادات السياسية المسيحية للبحث في مصير التعيينات في الجيش للخروج من ردّات الفعل السلبية على موقفه – الخاطئ الذي شَكّلَ دعسةً ناقصة قاتلة – من حصر النقاش في مصير رئيس الأركان في الجيش تعييناً أو تمديداً بالتشاور مع النائب وليد جنبلاط على أساس أنّ المنصب للدروز وكأنّه لا يَعني غيرَهم. وهو يدرك أنّ هذه الجولة لن تؤخّر ولن تقدّم في مصير الأزمة التي فرضَها استحقاق التعيين أو التمديد لقائد الجيش ورئيس الأركان ومدير المخابرات والأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع.
ومِن نافِل القول إنّ مسرَح المواجهة كان وسيَبقى الحكومة التي تترنّح تحت وطأة الملفّات الضاغطة، لكن ما لا يدركه المسؤولون وما لم يعترفوا به أنّ التضحية بالحكومة منشارٌ ذو أكثر من حَدّ. فإسقاطها لن يحلّ ملفّ النفايات، وشَلُّها سيفسِح المجالَ واسعاً أمام وزير الدفاع للتحَكّم وحيداً بملف التعيينات، فتتكرّر التجربة السابقة بالتمديد للقادة العسكريين بشحطةِ قلم. وعندها كيف سيبرّر الساعون إلى الإمعان في شلّ آخِر المؤسسات الدستورية إلّا على قاعدة «منشل ما منفل». ومَن سيعدّد الخاسرين ممّا يجري؟ وهل سيكون هناك أيّ رابح؟