غزت حرب الطرود البريدية الولايات المتحدة هذه الأيام، وهو نوع بشع من العنف له تاريخه في الثمانينات من القرن الماضي، ومن شاهد مسلسل Manhunt: Unabomber من إنتاج ديسكفري عام 2017 يرى وثبة محلل الشخصيات «فيتزجيرالد» في مكتب التحقيقات الفيدرالي بحثاً عن القاتل المجرم الذي تمتع بوحشية نادرة ليس لها دوافع ميدانية، أو إرهابية سياسية، وإنما لها أبعاد شخصية ونفسية، كما يتضح لمتابع المسلسل حتى نهايته، القاتل «تيد كارينكسي» (يونابومبر – اسمه الرمزي لأن أهدافه كانت الجامعات وشركات الطيران) من مواليد 22 مايو (أيار) 1942 برفسور بالرياضيات منعزل بمكانٍ غامض، معادٍ للتكنولوجيا، وصف بأعنف مفجر قنابل متسلسل بالتاريخ قام عبر 17 عاماً بإرسال القنابل البريدية، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 1979 كاد أن يحطّم تقريباً الرحلة رقم 444 للخطوط الجوية الأميركية، والذروة كانت بين عامي 1981 و1982 حيث استهدف المزيد من الجامعات.
الأغرب أنه برسائله صاحب عبارة حادة ضد عالمه ومحيطه، يبث رسائله الملغزة عبر وسائل متعددة حتى أفردت له الصحافة الأميركية تحت التهديد مساحة لبث أفكاره ومنها: «إنك خروف وتعيش في عالم من الخراف، عندما تكون الأداة الوحيدة لديك هي المطرقة، كل شيء حولك سيبدو وكأنه مسمار، يريدون منك أن تكون نعجة لأنهم نعاج. الطريقة الوحيدة لتحافظ على إنسانيتك وأن تكون حراً هي التمرد. قف وعبّر عن مشاعرك بالعزف حتى يسمعك العالم بأسره، أصبح البشر منتجات، مجرد تروس في الجهاز الاجتماعي». ومن أجل التعرف على هويته بدأ المحقق بإنشاء وحدة تتعلق خصيصاً بالبحث والتحقيق عبر «اللغويات الجنائية» وهو أسلوب أثارت مدى قانونية نتيجته الكثير من السجالات، ولكنه أثمر عن نجاحٍ باهر، ولهذا التطور بأساليب التحقيق نموذج آخر وثقه صاحبه في كتاب.
في كتابه «القادة وتابعوهم في عالم خطير» يذكر جيرولد م. بوست وهو عالم نفس كيف انتقل للعمل يروي المؤلف قصة غيّرت حياته: «حدث شيء طريف في طريقي إلى مسيرتي المهنية في طب النفس الأكاديمي، ففي سنتي الأخيرة كمساعد طبيب في المعهد القومي للصحة العقلية، هناك كنت أخطط للعودة إلى بوستون حيث عرض علي تعييني في قسم الطب النفسي في كلية هارفارد للطب، تلقيت هاتفاً مواربا من زميلٍ في كلية الطب أراد أن يناقش (فرصة عمل شديدة الغرابة) أسرت بالأمر والتقينا على الغداء».
يضيف: «مندهشاً عرضت علي فرصة بدء برنامجٍ اختباري لحكومة الولايات المتحدة لتطوير تقييمات غير مباشرة لشخصيات قادة أجانب وسلوكهم السياسي، كانت الوحدة ستكون في وكالة الاستخبارات المركزية، لكنها ستعمل كوحدة تحليلية ذات اهتمامٍ عام، لتوفر دراسات في العمق لشخصيات قادة العالم لمساعدة الرئيس، ووزير الخارجية، ووزير الدفاع ومسؤولين حكوميين كبار آخرين في عقد مؤتمرات قمة ومفاوضات أخرى على مستوى عالٍ وفي التعامل مع الأزمات أيضاً، اعتقدت أن هذا سيكون تسلية مثيرة للاهتمام بضع سنوات، ومن ثم أعود إلى جنان الأكاديمية، هذه التسلية التي خطط لها أن تدوم عامين انتهى بها الأمر أن تدوم واحداً وعشرين عاماً من عام 1965 إلى عام 1986 فيما غدا أوديسة فكرية استثنائية، حيث بات واضحاً بسرعة أن مجال الطب النفسي «السيكوديناميكي» لن يكون كافياً للمهمة المطلوبة، إذ يتطلب وضع الممثل بدقة في سياقه التاريخي والثقافي والسياسي خبرات كبيرة لتكتمل خبرات أطباء النفس في الوحدة ومن ثم تلقيت الدعم لتأسيس تلك الوحدة».
يتحدّث المؤلف عن أحد القادة الذين تم إجراء مقابلاتٍ معهم وهو حسن سلامة، كان قائد المفجّرين الإرهابيين الذين قاموا بموجة التفجيرات في عام 1996 والتي عجّلت بخسارة رئيس الوزراء شيمون بيريز وانتخاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فقد مات ستة وأربعون إسرائيلياً في الانفجار، وحكم على سلامة بأربعة وستين حكماً مؤبداً متتالياً، قال حسن سلامة في الإرهاب الانتحاري: «إن التفجير الانتحاري هو أعلى درجات الجهاد، ويلقي الضوء على عمق إيماننا. المفجرون مقاتلون مقدّسون، يقومون بأحد أهم الشؤون الإيمانية» وأكّد قائد آخر: «هي الهجمات الانتحارية التي تحرز أعلى احترامٍ وترفع المفجّرين إلى أعلى مرحلة ممكنة من الشهادة».
يضيف المؤلف خبرته حين يتحدّث أنه وخلال خبرته «كشاهدٍ خبير» في محاكمات إرهابيي القاعدة المدانين بتفجيرات السفارات الأميركية في كينيا وتنزانيا، فقد حصل على نسخة من مستندات وزارة العدل عن دليل إرهاب القاعدة «إعلان الجهاد» وهي وثيقة استثنائية تذهب بعيداً في تفسير كيف استطاع إرهابيو الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أن يحافظوا على غطائهم في الولايات المتحدة، والتي هي بلد الأعداء، ففي الدرس الثامن مما يجب اتخاذه من الإجراءات بالنسبة إلى العضو «المتخفّي» ألا يدل مظهره على التوجه الإسلامي، وأن يكون حذراً، بالإضافة إلى تجنب زيارة الأماكن الإسلامية المشهورة وبخصوص الملابس.
الكتاب يبين بتعداد فصوله المهمة كيف يمكن لوكالات الاستخبارات والجهات الأمنية تجديد وحدات التحقيق تبعاً لنوعية الجريمة، من التحليل الجنائي اللغوي، كما رأينا في قصة «تيد» أو وحدة تحليل الشخصية من خلال النمط السلوكي والنفسي كما فعل بوست، وهذه توضح أزمة الإرهاب وضرورة مواجهتها بطرقٍ أمنية تتحد مع الخبرات العلمية لغوية كانت أو نفسية.