لا حاجة للسؤال كثيراً عن خفايا زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان إلى بيروت. ما قاله في السرّ، باح به في العلن. الهدف الأوحد لجولته اللبنانية هو اعادة التأكيد أمام المسؤولين اللبنانيين بأنّه لا مفرّ من الإصلاحات. الفرصة لا تزال متاحة، وحتى لو بلغت الأوضاع قعراً عميقاً قد يتحول في ليلة لا ضوء قمر فيها إلى بركان متفجر لا يعفي أيّ مكون سياسي أو طائفي من حممه.
صحيح أنّ الضغط يزداد على لبنان، والحصار يشتدّ أكثر مع ارتفاع حماوة الصراع الدولي بين الولايات المتحدة وايران، إلا أنّ الفرنسيين يتعاطون مع هذه المرحلة الحرجة على أنّها فرصة ثمينة من الضروري استثمارها لتحقيق الاصلاحات المطلوبة لاستقامة عمل الدولة ومؤسساتها. ولهذا يصرون على دفع القوى السياسية دفعاً نحو ممر الإصلاحات الإلزامي، كون لا امكانية لاستعادة الثقة الدولية من دون تحقيق شروط بات اللبنانيون يحفظونها عن ظهر قلب. ولعل أبرزها قطاع الكهرباء.
ولهذا لم يتردد وزير الخارجية الفرنسي في ادراج بند الكهرباء وبشكل علني ضمن قائمة الاصلاحات المطلوبة خارجياً، بعد التأكيد أنّ “ما تمّ إنجازه حتى الآن غير مشجّع أبداً”. وهذا ما يعني أنّ ما تعتبره الحكومة انجازاً، والمقصود به تعيين مجلس ادارة مؤسسة كهرباء لبنان، ليس سوى خطوة أولى في مشوار الألف ميل، فيما التحدي الأبرز يكمن في تعيين الهيئة الناظمة.
وفق المتابعين فإنّ هذه المسألة تشكل اختباراً أساسياً لـ”التيار الوطني الحر” الذي يرفض تعيين هيئة ناظمة قبل تعديل القانون 462 /2002، فيما المجتمع الغربي يرفض العكس بمعنى حرصه على عدم تعيين هيئة ناظمة مجوّفة الصلاحيات لمصلحة وزير الطاقة، وهو شرط أساسي لا يحيد عنه “الناظرون الماليون” بأمر لبنان. ولهذا يبلّغ بعض الوزراء ملتقيهم أنّ الحكومة تتجه الى تعيين هيئة ناظمة بالتزامن مع تحضير مشروع تعديل القانون وارساله الى مجلس النواب. ولكن هل سيلتزم “التيار الوطني الحر” بهذا المسار؟ لا جواب واضحاً بعد.
يؤكد المتابعون أنّ هذه المعركة قد تكون آخر معارك “التيار الوطني الحر” في قطاع الكهرباء ولذا قد لا يستسلم بسهولة.
بهذا المعنى بدت تصريحات ومواقف وزير الخارجية الفرنسي أشبه بتعليمات أستاذ الصفّ الذي يئس من تلامذته المشاغبين الذين “يحورون ويدورون” رفضاً لتطبيق الاصلاحات المطلوبة، ولو أنهم متأكدون أنّ نهايتهم ستكون وخيمة.
ولكن ما لم يأت ضمن مشاورات الضيف الفرنسي مع مضيفيه اللبنانيين، بدا جلياً من خلال الجولة بحدّ ذاتها. كل المؤشرات تدل على أنّ الفرنسيين يبذلون قصارى جهدهم كي لا يغرق لبنان في أتون الفوضى. تركيزهم في الوقت الحالي على اقناع الادارة الأميركية أنّ رفع منسوب الضغط على لبنان بحجة الضغط على “حزب الله” سيأتي بنتائج معاكسة، ذلك لأنّ الفوضى ستكون في المحصلة لمصلحة “حزب الله”. أقله هكذا يقول مسؤولون لبنانيون يلتقون ديبلوماسيين فرنسيين.
يشير هؤلاء الى أنّ الادارة الفرنسية تحاول خلال الحدّ من الضغط الأميركي، أقله من خلال إطالة عمر الوضع اللبناني بضعة أشهر عسى أن تتوضح خلالها الصورة الدولية. ويبدو وفق هؤلاء أنّ الاميركيين لا يمانعون قيام هذه “الهدنة” ولو المحدودة التي قد تسمح ببعض الاوكسيجين لا أكثر.
وفي هذه الأثناء، يتردد أنّ الادارة الفرنسية تعمل على وضع خطط استباقية وآليات قانونية ومالية في حال تدهور الوضع المالي والاقتصادي أكثر، من خلال خطوط ائتمان مالية تساهم في رفد لبنان بالأدوية والقمح والمواد الأساسية بشكل لا يسمح بتدهور الوضع الاجتماعي والمعيشي أكثر.