الثنائي الشيعي لن يوافق على حكومة أمر واقع
التعقيدات التي تحيط بعملية تأليف الحكومة ليست مستغربة. وعدم الاستغراب مردّه الى طريقة عمل الرئيس المكلف مصطفى أديب ورعاته المباشرين، المحليين منهم والخارجيين. يكفي أن تستمع الى صغيرهم يقول «لا أحد يقدر على منع تشكيل الحكومة ومواجهة العالم»، حتى تفهم خلفية البحث في حجم الحكومة وتوزيع الحقائب وحتى اختيار الأسماء.
المشكلة لا تتصل حصراً بالحسابات الخاصة بالقوى المحلية، بل أيضاً بالعقلية التي تسيطر على عقل المستعمر الفرنسي الذي يبدو أنه «داخ» بالهمروجة التي رافقت زيارتي إيمانويل ماكرون للبنان. الكارثة تكتمل إذا ظن الفرنسيون أن مواقع التواصل الاجتماعي والضخ الإعلامي يعبّران عن حقيقة الوقائع الجديدة في لبنان. ولكن، من المهم هنا لفت الانتباه الى ان الفرنسيين ليسوا كلهم على هذا المنوال. كما في كل بلد وفي كل إدارة، هناك العاقل الذي يعرف المعطيات، ويعرف الفرق بين «الخبرية» و»المعلومة».
اليوم يقف الجميع عند سؤال وحيد: هل يحمل مصطفى أديب تشكيلته الى الرئيس ميشال عون على قاعدة «وَقِّعها بلا نقاش»؟
بعيداً عن كل كلام منمّق، فإن نادي رؤساء الحكومة السابقين اعتبر أن التفاهم على خروج لائحة المرشحين لرئاسة الحكومة من عنده، يعني أنه المرجعية الحاكمة لكل رئيس حكومة من الآن فصاعداً. لكنّ الاجتهاد هنا لا يتعلق بعرض أسماء المرشحين وحسب، بل بآلية العمل. ولذلك، يتصرف الرؤساء فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وسعد الحريري على أساس أنهم أمام فرصة نادرة لفرض حكومة على تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل. وفي دفاتر السنيورة وميقاتي حسابات طويلة وعميقة ومعقدة مع عون ومع حزب الله. وهما، والى جانبهما الحريري، طوّقوا الرئيس المكلف منذ اليوم الاول، وأفهموه أنه أمام فرصة لم تتح لغيره، وهي أن يقوم بفرض شروطه (شروطهم)، وأن سيف الضغط الدولي على لبنان سيمنع الآخرين من الاعتراض. وصار هؤلاء يتحدثون عن العقوبات الأميركية أو الأوروبية على شخصيات لبنانية، باعتبارها السلاح الذي يوازن سلاح حزب الله، وأن الوصاية الفرنسية تعطّل الدور الإضافي الذي لعبه عون، بخلاف بقية رؤساء الجمهورية الذين وصلوا الى بعبدا بعد اتفاق الطائف. ولذلك فإن ميقاتي والسنيورة قالا مساء أمس إن اديب سيحمل تشكيلته الى عون ويضعها أمامه، وإن الأخير سيوقّعها، وإن كل ما يقدر عليه بري وباسيل وحزب الله هو الاعتراض ببيانات… و«انتهى الأمر».
المشكلة هنا لم تعد تخصّ الرئيس المكلف (ليس معروفاً من هو فريقه، من يساعده ومن يستشيره… إلخ)، بل تخص الفريق السياسي المحلي والخارجي الذي يفترض أن حكومته تمثل فرصة لتحقيق انقلاب سياسي كبير في البلاد، وأن لبنان ليس أمامه أي فرصة للنقاش. وإذا أراد الحصول على مساعدات مالية من العالم، فليس له الحق في التعامل مع تركيبة الحكومة كما كان يجري سابقاً.
أصحاب وجهة النظر هذه، قالوا إنه يمكن اللجوء الى تشكيلة حكومية من نوع جديد. يعني أن تكون حكومة مصغرة من 14 وزيراً، بحيث يفرض على بعض الوزراء تولّي أكثر من حقيبة. ويمكن عندها أن يحتفظ رئيس الحكومة نفسه بحقائب حساسة، ويوكل أمر إدارتها إلى مساعدين تقنيين. وتعمل هذه العقلية على أساس اختيار شخصيات قد لا تكون معروفة للناس. ويجري الحديث عن سبعة من الوزراء من الذين يعيشون في الخارج ويزورون لبنان في العطل والمناسبات الاجتماعية. والحجة أن هؤلاء لديهم سيرة ذاتية اختصاصية، وأنه سيكون من الصعب إخضاعهم لتأثيرات القوى المحلية، وأن يتم تحييد الحقائب الخدماتية الأبرز، مثل المالية والاتصالات والطاقة والأشغال العامة، بينما يجري اختيار «هامشيين» لوزارتَي الدفاع والخارجية بما يشير الى أنه ليس لديهما عمل جدي. كل ذلك على قاعدة أن الذين يتم اختيارهم، لن يمثّلوا استفزازاً للقوى الرئيسية في البلاد. وسيكون أمامهم جدول أعمال محصور بمهام الحكومة لا غير، وليس لهم أي طموحات سياسية أو صلات تدفعهم إلى أن يكونوا في حضن القوى السياسية.
الفرنسيون ليسوا بعيدين عن هذه المناخات. لكن الاشكالية بدأت مباشرة بعد تكليف أديب، إذ بينما تطلّب أمر تكليفه إجراء الاتصالات والمشاورات والحصول على موافقة القوى البارزة في المجلس النيابي، فإن العكس هو قاعدة العمل الآن. بمعنى أن من يقف خلف أديب يعتبر أنه لا داعي لمشاورة أحد في أمر التأليف، وأن من الأفضل أن تبتعد القوى السياسية عن الحكومة أصلاً. ولذلك، نصح الفريق ذاته الرئيس المكلف بعدم التشاور مع الآخرين. فقرر هو الاستجابة، وعقد اجتماعات كانت على شكل علاقات عامة، لكنه ليس مضطراً إلى محاورتهم في أمر الحكومة.
بعد مرور نحو عشرة أيام على تكليف أديب، توصل الرئيس عون ومعه الرئيس بري كما حزب الله وباسيل الى نتيجة مفادها أن هناك من يريد فرض حكومة أمر واقع، وينتزع موافقتهم من دون نقاش. وخشية الوصول الى صدام مباشر، بعث هؤلاء برسائل متنوعة الى الرئيس المكلف، لكن الأخير لم يكن على الخط. وفجأة خرجت العقوبات الاميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، مع تهديد صريح بوضع آخرين مقرّبين من الرئيس عون على لائحة العقوبات. وتبين أن نقاشاً حال دون وضع اسم الوزير السابق سليم جريصاتي على اللائحة، وجرى التعامل مع هذه الخطوة على أنها رسالة الى هذه القوى، وأن عليها التعجيل في تأليف الحكومة وإلا فالعقوبات المباشرة.
الرئيس عون، كما الرئيس بري وحزب الله، وجدوا أن من المناسب لفت انتباه الجهة التي تلعب دور الوصاية الى أن هناك مشكلة قد تتفاقم وقد تعرقل كل المبادرة الفرنسية. وبناءً عليه، كانت زيارة اللواء عباس ابراهيم الى باريس، وهو يمكن أن يزورها مجدداً خلال الايام القليلة المقبلة، بعدما انتقل إليها أمس النائب السابق وليد جنبلاط، وحيث يقيم هناك كثيرون من المتعاطين بالشأن اللبناني من لبنانيين وغير لبنانيين أيضاً.
زيارة إبراهيم لباريس كان هدفها إبلاغ الجانب الفرنسي، من خلال قناة رئيس المخابرات الخارجية برناردر إيميه، أن هناك مشكلة قائمة، وأنها قد تتحول الى مشكلة أكبر إذا لم يبادر الفرنسيون الى تدارك الأمر. وبحسب ما هو متداول، فإن نتيجة الزيارة الاولى كانت في تولي الفرنسيين التواصل مباشرة مع القوى المحتجة، ومحاولة الوقوف على رأيها لمناقشته مع أديب نفسه، وسرت معلومة مفادها أن باريس «طلبت من أديب التريث».
عملياً، الفرنسيون كانوا يهتمون بمعرفة تفاصيل كثيرة. ويبدو أنهم سمعوا كلاماً مباشراً يتعلق بأصل المبادرة ودورهم في هذه المرحلة، ويمكن تلخيص الرسالة الواضحة لهم بالآتي:
أولاً: لقد قررتم المبادرة في لبنان بعدم ممانعة أميركية، وحيادية سلبية لعواصم عربية أساسية. لكنكم دخلتم بيروت هذه المرة بتسهيلات من قوى لبنانية أساسية وبدعم عواصم إقليمية. وإذا كنتم تشعرون بأنه يمكنكم القيام بأمر ما وحدكم، من دون الاخذ بالاعتبار الحسابات الجديدة في لبنان والمنطقة، فهذا يهدّد ليس مبادرتكم فحسب، بل مجمل دوركم، ومن المفيد الانتباه الى أن ما تقومون به في لبنان اليوم، قد يمثل آخر فرصة لكم في المنطقة.
ثانياً: إن التسهيلات التي حصلتم عليها بشأن البرنامج الزمني وبشأن اختياركم لرئيس الحكومة المكلف، كان من باب الايجابية، لكن ذلك لا يعني أن لديكم التفويض للقيام بكل ما ترونه مناسباً لكم أو لمصلحة حلفاء لكم في لبنان على حساب الآخرين. وبالتالي، فإن الإجماع الذي حصل حول المبادرة وحول التكليف سيسقط نهائياً، وسيكون مكانه الانقسام الذي يعكس حقيقة الوضع على الارض، لا الذي يتخيله بعض القائمين على «حركات صبيانية» في بيروت.
نادي رؤساء الحكومة يمنح نفسه شرعية دستورية وبرلمانية وسياسية ويتصرف كما لو أن الحكم بيده وحده
ثالثاً: إن التهديد بالعقوبات الاميركية أو الفرنسية أو الاوروبية، لا يمكن أن يكون عاملاً حاسماً بتولي الدور السياسي. وإذا كانت العقوبات بسبب دعم الارهاب، فهذا أمر لن يكون له أي تأثير على مواقف القوى الاساسية التي تسعى فرنسا للتفاهم معها. أما إذا كان على أساس الفساد ويطال من تورط فعلياً في الفساد، فهذا أمر سيكون محل ثناء وشكر، لأنه يساعد اللبنانيين حيث فشل قضاؤهم في تحقيق العدالة.
رابعاً: إن الوضع لا يحتمل المداراة أو تدوير الزوايا، وإن الوصول الى تفاهمات واضحة بشأن المرحلة المقبلة لا يتم من خلال الطريقة المعتمدة في تأليف الحكومة. فهذا الأداء سيؤثر بقوة على المصالح الفرنسية، وليس حصراً على المبادرة الفرنسية. وبالتالي، فإن الاعتقاد بأنه يمكن فرض حكومة على رئيس الجمهورية أو على المجلس النيابي ومن ثم السعي الى تجاوز رئاسة الجمهورية وفق الطريقة التي اعتمدت مع الرئيس السابق إميل لحود، أو السعي الى انتزاع صلاحيات استثنائية من المجلس النيابي رغماً عنه، كل ذلك يحتاج الى أكثر من انقلاب سياسي في البلاد، وعلى فرنسا الاستعداد لتحمل مسؤولية مثل هذه الامور.
المفاجأة والمبادرة
الجانب الفرنسي يعلم جيداً الكثير من هذه المعطيات. وهو يدرك أن الأمر لا يتعلق بشكليات مثل التي اقترحها أحدهم، بأن يعقد أديب اجتماعات سريعة مع ممثلي القوى كافة، وخصوصاً باسيل وحركة أمل وحزب الله، ثم يعود ويطرح تشكيلته، بل إن الأمر يتعلق بالدور الحقيقي للحكومة المقبلة. وإن فكرة تمرير تشكيلة من الاسماء التي يراد إقناع اللبنانيين بأنها مستقلة عن القوى السياسية لكنها مختارة من قبل عواصم الاستعمار، سيحوّل هؤلاء الى عملاء في نظر قسم كبير من الناس، وسيجري التعامل معهم على هذا الاساس. وبالتالي، فإن المجلس النيابي لن يكون حيادياً كما جرت عليه العادة يوم كان لغالبية قواه تمثيلهم المباشر داخل الحكومة.
حتى الآن، لا يظهر أن هناك عنجر ودمشق والزبداني، لكن قد نصل الى هذه المرحلة. عندما ينقل زوار باريس معلومات فيها شيء من التناقض بين ما يقوله مسؤولو المخابرات الخارجية وما يقوله مَن يُعرف بمسؤول ملف لبنان في الرئاسة الفرنسية وما يقوله السفير في بيروت، والذي يريد إنجازاً ما قبل مغادرته الى مكان عمل آخر، فإن هذه التناقضات قد لا تكون واقعية بقدر ما تمثل الدور الفرنسي غير المكتمل إزاء الازمة اللبنانية. الأكيد أن اللبنانيين صاروا ينقلون كل ساعة روايات متعارضة حول موقف باريس من هذه القضية أو تلك. طبعاً لن يمر وقت طويل قبل أن يصبح عندنا مَن هم مِن «جماعة السفارة» أو «جماعة إيميه» أو «جماعة إيمانويل بون»، هذا عدا عن لبنانيين يعيشون في باريس أو سبق لهم أن عاشوا طويلاً في باريس، ويعرضون خدماتهم على السياسيين اللبنانيين لأجل ترتيب لقاءات أو اتصالات لهم في العاصمة الفرنسية… إنها سوق رائجة بقوة عند اللبنانيين، ومن المفيد التعرف على النسخة الاوروبية منها الآن.
المهم أن الساعات المقبلة ستفرض على الفرنسيين تحمل المسؤولية عن سياق المبادرة التي يقودونها. إما حكومة تحظى بإجماع كبير كما هي حال تكليف رئيسها، وبالتالي ستكون هناك مشاركة كاملة في عملية التأليف، أو حكومة أمر واقع لا تتمثل فيها قوى أساسية لها تمثيلها الطائفي ولها موقعها السياسي الكبير ايضاً.
تواصل الفرنسيون مع القوى المحتجّة على مسار التأليف ثم طلبوا من أديب التريث
من بين الامور التي جرت مناقشتها في اليومين الماضيين، بما في ذلك مع الفرنسيين، أن المطلب الذي يرفعه حزب الله وحركة أمل بشأن تسمية وزير المالية، أخذ بُعداً جديداً بَعد العقوبات الاميركية، ويبدو أن الموقف سيكون أكثر تشدداً حيال فكرة أن تتم تسمية وزير بالنيابة عنهما. وبمعزل عن خلفية الموقف لدى الطرفين، وعن كل النقاش الدائر في البلاد، فمن المفيد معرفة واقع أن الثنائي الشيعي يتصرف على أساس أنه «مستهدف هذه المرة بأكثر من السابق، وأن الهدف كان ولا يزال هو رأس المقاومة»، وهو ما دفع بمطلعين الى الكشف عن احتمال من اثنين:
إما أن يرفض الرئيس عون تشكيلة أديب المفروضة وبالتالي لا يكون التأليف، وساعتها يبرر عون والتيار الوطني موقفهما بعدم الرغبة بالمشاركة في حكومة يرفضها الثنائي الشيعي، وإما أن يقبل عون بالتشكيلة رامياً بالمشكلة الى حضن المجلس النيابي، وفي هذه الحالة، يفكر الثنائي في مقاطعة الجلسة النيابية، فلا يترأس الرئيس بري جلسة مناقشة البيان الوزاري، ولا يحضر نواب حركة أمل وحزب الله الجلسة.
وفي كل حالة من الحالتين، سيكون الفرنسيون أمام اختبار لبنان الجديد، لا لبنان الكبير الذي أنتجوه على شاكلة الذين يشكون منهم اليوم، وحيث لا أمل بالقيام من جديد!