ثمّة نقاش يدور في أروقة الدبلوماسيّة الفرنسيّة حول المغزى من «تعويم» القوى السياسيّة الحالية في لبنان. مردّ النقاش أنّ الكلام عن الفساد المستشري يتردّد منذ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وقبل انفجار المرفأ وبعده. وبالنسبة إلى طارحي هذا السؤال، فهو لا يتعلّق بوقف دعم باريس للبنان أو لمبادرتها الحكوميّة، بل ينحصر بما يمكن أن يؤدّي الى استعادة القوى السياسيّة، التي لا تزال تتحكّم باللعبة الداخلية، أنفاسها، ولا سيما بعد انفجار المرفأ، ووقوف الكثير من العواصم الى جانب لبنان. فالمفاوضات السياسيّة لتشكيل الحكومة انطلقت فرنسياً، بتحييد الملفّات الخلافيّة المتعلّقة بسلاح حزب الله أو بوضع لبنان الإقليمي، من أجل المساعدة في وقف الانهيار الاقتصادي، بالحدّ الممكن، ليس أكثر ولا أقل. وساهم في تعزيز هذا الهدف ما لمسه الفرنسيّون بعد انفجار المرفأ، من نقمة على السياسيّين وعلى استشراء الفساد، حتى أصبح هذا العنوان أساسيّاً في كل وسائل الإعلام والضغط الدولي. لكنّ أداء السياسيّين اللبنانيّين لم يُظهر أنّهم على توافق مع الفرنسيّين، حول هذا العنوان تحديداً، لا بل إن مماحكاتهم دلّت على أن الملفّ الاقتصادي والمالي ليس في سلّم أولويّاتهم، وإلّا لما كان الفرنسيون يحتاجون الى التدخل يومياً في تفاصيل التشكيل. هذا الأمر طرح أسئلة فرنسيّة عن إمكان قيام أيّ حكومة ممكنة بوضع خطط للإنقاذ المالي والاقتصادي، من دون أن تؤدّي في نهاية المطاف الى استفادة السياسيّين أنفسهم كي يستعيدوا نفوذهم وممارساتهم السابقة. لأن الفساد لن يُشطب بشحطة قلم، وتشكيل حكومة بإشراف القوى السياسيّة نفسها يعني أنها ستستأنف بعد أشهر قليلة عمليّة النهب التي أوصلت لبنان الى ما هو عليه. هذا النقاش لا يزال مفتوحاً ويعبّر عن يأس فريق من الإدارة الفرنسية من احتمال نجاح باريس في إيجاد حلّ طويل الأمد للبنان، كما من احتمال وعي السياسيّين اللبنانيّين مخاطر ما يعيشه اللبنانيّون، ولا سيّما أنّ القوى السياسيّة تحاول توجيه رسائل ضاغطة داخليّة عن مبادرة الرئيس الفرنسي ومواعيد لها وكأنها تهديد لسمعة باريس ودورها، وفشل لسياستها وليس فشلاً للبنان نفسه. وهذا هو الأهم.
هذا النقاش الفرنسي يجد في بيروت ترجمة عملية له، لأن ما جرى منذ طرح المبادرة الفرنسية لا ينسجم مع حقيقة الانهيار الحتمي. ورغم أن الكارثة الماليّة والاقتصاديّة صارت أمراً واقعاً، لكنّ أداء القوى الأساسية لا يزال دون هذا السقف الذي يجعل تشكيل الحكومة أولويّة من دون الالتفات الى تعزيز هذه القوى مصالحها ووجودها. لا بل إن هذا الأداء، عدا عن أنه لا يساهم في حلّ العقد الاقتصاديّة والمعيشيّة، بات يزيد من الشرخ السياسي ويضاعف من الأزمات الموجودة أصلاً. ما قام به الرئيس سعد الحريري يعبّر تماماً عن هذا الجانب. بدا الحريري، بمبادرته الأخيرة، كأنه يريد تغليب الشأن الوطني العام على ما عداه، في سعي الى ملاقاة الضغط الفرنسي لتأليف الحكومة. لكن واقع الأمر هو أن مصالحه في تحقيق خرق حكومي، بالترتيبات الاقتصاديّة الماليّة المتعلّقة بسيدر وغيره، لا تزال منذ أن استقال في نهاية العام الماضي، أولويّة الأولويّات. وبمحاولته استظلال المبادرة الفرنسيّة بعد خطوات ناقصة، ومحاولة إعطاء غطاء «سنّي» لها، خلق مجدداً زوابع محلّية إن في بيئته أو في علاقاته مع حلفائه محلياً ودولياً، وأثار أسئلة عن مستقبله السياسي. فقراءة بيان الحريري قبل كلام الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تختلف عن قراءته ما بعد الكلام.
أولويّة الحريري تحقيق مصلحته لا تغليب الشأن الوطني كما حاول أن يوحي في مبادرته
إذ وقع في فخّ نصبه لنفسه في المنظار السعودي، حين خطا خطوة ناقصة، ليس من باب تسهيل تشكيل الحكومة وإنّما في إعطاء حزب الله ورقة سياسية أساسية، فيما كانت الرياض على أهبة إعطاء موقف حادّ من الحزب وإيران، بعد سلسلة رسائل تجاهلت فيها تماماً موضوع تأليف الحكومة وحيثيّة الحريري فيها. ما ساهم الحريري فيه، بعدما جرّ دار الفتوى أيضاً الى إعطاء غطاء سياسي، هو أنه وجد نفسه اليوم في موقف أكثر التباساً سعودياً، في مرحلة تتجاهل فيها أيضاً واشنطن الملفّ الحكومي، على اعتبار أنّه أوجد للحزب مخرجاً، فيما كانت الأنظار تتّجه الى الثنائي الشيعي على أنه الطرف المعرقل للتأليف. هذا الأمر لا يجد تفسيرات سياسية مقنعة، لأن خطوة الحريري لن تؤدّي الى تشكيل حكومة. واحتمالات أن ترتفع أصوات حلفاء الحزب من مسيحيين وغير مسيحيين تطالب بحصصهم أيضاً وبتسمية وزرائهم، احتمالات واقعيّة ومنتظرة. وهذا يعني أنه في لحظة حسّاسة، يكرر الحريري سياسته السابقة، معوّلاً كما في كلّ مرّة على طرف خارجي لإنقاذه، فيعتمد على باريس كونها صاحبة المبادرة في تأمين غطاء له. إلا أنّ توقيته الخاطئ لن يؤتي ثماره من المنظارَين الأميركي والسعودي. وباريس التي تضغط لتأليف الحكومة، تحاول إيجاد توازن دقيق بين هذين الموقفين، لكنها لن تغامر أكثر، فلا تتحمّل مسؤوليّةً ما حين تنكشف أوراق القوى السياسيّة بوضوح أكثر لجهة الاستمرار في سياسة المراوحة، ومعها انهيار الوضع الداخلي.