تعتمد الدبلوماسية الاميركية مبدأ الباب الدوار. يمكن إدخالك من باب ثم تجد نفسك خارج المكان بعد برهة. هذا ما فعله الاميركيون مع الفرنسيين عندما حاولت باريس استغلال انفجار مرفأ بيروت للدخول عنوة في ملف يعتبر من اهم الملفات الاميركية في المنطقة. لا يوجد عاقل يقتنع بأن فرنسا قادرة على خلق مبادرة مستدامة من دون الغطاء الاميركي. لكن واشنطن التي أربكت لحظة الانفجار، وكانت امام مراجعة اضطرارية لنتائج سياسة الخنق القائمة في لبنان، لم تتصرف بتوتر او تنازل كبير. وافقت على المهمة الفرنسية، لكنها وضعت اطارا واضحا. وعندما شعرت بأن باريس تحاول التحايل، عمدت الى تذكيرها بتلك الحدود من خلال مواقف واضحة صدرت عن وزير خارجيتها مايك بومبيو وعن مساعدين له، ثم من خلال العقوبات «غب الطلب» بحق اثنين من حلفاء حزب الله. وفي كل مرة، كانت باريس تحاول تدوير الزوايا على قاعدة انها الاكثر خبرة، كان الأميركيون يمارسون الضغط وصولاً إلى خطاب الملك السعودي سلمان الذي بق البحصة: لا تسوية مع حزب الله!
يعرف الفرنسيون ان كل ما كان يدور من مناقشات حول تشكيل الحكومة إنما ارتبط بعنوان واحد: هل يمكن تشكيلها من دون حزب الله ليرضى الاميركيون وحلفاؤهم من العرب؟ وهل يمكن اقناع الحزب بأنه في حال ترك الحكومة لن يكون اكثر عرضة للمخاطر؟ وهل يمكن ادارة الملف على قاعدة «دعونا نعمل»؟
كل هذه الاسئلة كانت تواجَه بإجابات واضحة من الطرفين الاساسيين: أميركا التي تقول بانه لا يمكن اقامة اي تسوية مع حزب الله إلا في حال تخليه عن المقاومة، وحزب الله الذي كان يقول بأنه لن يسمح بتكرار تجارب 2005 و2008، ولن يقبل بحكومة تذهب في اليوم التالي نحو قرارات ستستدعي حكما انتفاضة كبيرة، لكن على طريقة حزب الله. ولذلك، فان «التشاطر» الفرنسي، عكس نقص خبرة وقلة دراية، ليس بالتفاصيل اللبنانية الجديدة فحسب، بل عكس أيضاً ان هامش المناورة الذي تتيحه الولايات المتحدة للاوروبيين ضيق جدا… فكان ماكرون امام نصيبه وهو الباب الدوار.
لكن ماكرون لم يحضر الى لبنان ليعود خالي الوفاض. كل الكلام المعسول عن الاصلاح وخلافه، لا يمكن ان يخفي رغبة فرنسا باستعادة دور مباشر وتفصيليّ في لبنان. وهو حدد الامر من خلال ورقته «الإصلاحية» التي ركزت على دور كبير له ولأنصاره في ملفات اقتصادية ومالية وثقافية. فريقه التنفيذي لا يزال يعمل على خطط تسمح له بوضع اليد على مطار ومرفأ بيروت وكهرباء لبنان وقطاعات اخرى. ويعمل الفريق نفسه على رشوة اللبنانيين من باب التربية والتعليم، علما ان مدارس البعثة الفرنسية العلمانية تواجه عجزا لا يتجاوز المليوني يورو، واذا ما عولج فلن تبقى فيها مشكلة تلاميذ ولا مشكلة اقساط ولا خلافه من المشكلات الناجمة عن ادارة مشكوك بنزاهتها لمدارس تلك البعثة. وماكرون يعمل ايضا على برامج تحت عنوان التسليح البحري والتقني للجيش والقوى الامنية، وهو يحاول ايضا «وضع رِجلٍ» في ملف الجمعيات غير الحكومية. لكنه يعرف، ان كل ذلك يتطلب منه الحضور في قلب السلطة التنفيذية، باعتبار ان حلمه باستعادة النفوذ التاريخي على صعيد البرلمان والقوى السياسية بعيد المنال. وهذا هو جوهر الخطاب الاخير لماكرون، الذي حاول ان يظهر فيه بمظهر الحريص الذي لن يوقف مبادرته، علماً بأنه لم يكن مضطرا لهذا القدر من التمثيل الرديء وهو يلقي علينا دروس الوصي.
فلنعد الى الخطأ الاول. يبدو واضحا ان تقديرات الاجهزة الاساسية العاملة الى جانب ماكرون، بشأن لبنان، لم تكن صائبة. ويمكن بعد كل ما شهدناه ايجاز ما جرى بالآتي:
لبنان في وضع اقتصادي ومالي صعب للغاية. السلطة السياسية فقدت قدرتها على المبادرة. الشعب يمارس غضبه في الشوارع او صمتا في المنازل، والقوى الجديدة الناشطة تحت اسم المجتمع المدني غربية الهوى وطالبة للدعم. اما القوى الكبيرة التي يمكن ان تعرقل فهي تواجه ازمات كثيرة. وفي هذا السياق يتوقف التقدير بأن حزب الله يواجه ازمات كبيرة تجعله مقيدا، سواء في مجال الصراع مع «إسرائيل» او التحرك داخليا، وان اللحظة مناسبة للانقضاض عليه، لكن بطريقة مختلفة عن الطريقة الاميركية. وبعد تفكير، وجد جهابذة باريس حيلتهم في انهم سيرشون الحزب من خلال اللقاء به والتحاور معه مقابل التسليم!
وضع فريق ماكرون تقديرا خاطئا للوضع في لبنان وفريق التنفيذ كرر فشله السابق
هذا التقدير هو الاساس الذي انطلقت منه باريس لتنفيذ ما سمي بمبادرة حكومة المهمة. استسهل الفرنسيون الامر كثيرا. ظن ماكرون ان المبادئ العامة التي طرحها، يمكن ان تسير بنفس الطريقة خلال عملية التنفيذ. وتجاهل ان المشكلة بدأت بالفريق الذي أسند إليه مهمة التنفيذ. وهو فريق قدم نفسه على انه عارف بلبنان وخبير بأهله وقواه وأحواله. لكن الحقيقة انه فريق غارق في فشله عندما كان في لبنان، ومليء بالحقد ازاء جهات لبنانية كثيرة. من العماد ميشال عون الذي حاربه هذا الفريق في العام 2005 بالتعاون مع الاميركيين وعمل على ابعاده عن التحالف الانتخابي وعن الحكومة وعن الرئاسة وعن كل شيء… الى حزب الله الذي لم تتصرف فرنسا حياله يوما الا كخصم او عدو.
عمليا، تصرّفت فرنسا كأنها مصدومة. صحيح ان ميشال عون لم يخض مواجهة نشطة في مواجهة المشروع الهادف الى عزله وتعطيل دوره وإلغاء حيثيته في مؤسسات الدولة، لكنه لم يستسلم، بخلاف ما يروج كثيرون. اما حزب الله، فلم يكن في حالة توتر او ضعف حتى يغره بعض الكلام المعسول، فكان واضحا بأن «من يريد توقيعنا على سلطة، عليه ان يعرف اننا لسنا جمعية خيرية، فاما ان نكون شركاء كاملين او لا مجال لاي تسوية». لكن الغريب هو أن فرنسا غرقت في اوهام قوى وشخصيات لبنانية تعيش على «وهم القوة»، فكانت الحصيلة ما كانت عليه، خصوصا مع حصان في حالة كبوة دائمة اسمه مصطفى اديب.
اليوم، لن تقدر فرنسا على مواصلة مبادرتها اذا لم تغيّر جوهريا في مقاربتها للازمة من جوانب كثيرة. واساس التغيير فَهمُ ان فرنسا قادرة على لعب دور بتوافق محلي. وانها ليست – على الاطلاق – في موقع من يفرض على احد شيئاً. لا على جماعة اميركا ولا على جماعة السعودية وطبعا لا على «جماعة ايران». فرنسا تشتري دورها بتضحيات كبيرة مطلوبة من قبلها، تلك هي فرصتها الوحيدة للبقاء عندنا. عدا ذلك، عليها البدء بالتفكير بمرحلة الأفول التي ستنتهي بأطفال يلهون على درج قصر الصنوبر ويغنون لفرنسا… بالانكليزية!