في مقابل التحولات التي شهدتها مجموعة «لقاء باريس الخماسي» في أعقاب «لقاء نيويورك الثالث» وعودة باريس الى ناديه بمناداتها بالخيار الثالث، تعزّز «البلوكاج الداخلي» منذ أن طوى رئيس مجلس النواب نبيه بري مشروع دعوته الى طاولة «حوار الأيام السبعة. وهو ما أنشأ وضعاً صعباً للغاية أدى الى الزَج بالاستحقاق الرئاسي في ثلاجة الانتظار الى مدى لا يمكن لأحد تقديره. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
عبّرت مصادر ديبلوماسية من أندية مختلفة عن قلقها من حجم النتائج المخيبة للآمال التي أفضى اليها اجتماع «نيويورك الثالث» لمجموعة «لقاء باريس الخماسي»، بعدما عقدت عليه الرهانات الكبيرة بامكان ان ينتهي الى ما توقعه البعض من تصور يمكن ان «يرشد» اللبنانيين الى مخرج ما، يؤدي الى مقاربة الاستحقاق الرئاسي بخطوات ايجابية تُفضي الى انتخاب الرئيس في أقرب فرصة ممكنة لاختصار مرحلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها وتوفير المخاض العسير الذي يعيشه اللبنانيون خوفاً ممّا هو آت من استحقاقات قد تؤدي الى مزيد من الانهيارات.
وإن طُلب الى البعض من هذه المصادر تفسير ما حصل والاسباب التي حالت دون ان يحقق اللقاء الثالث اي خطوة ايجابية، فإنها لا تُخفي بعضاً من الحقائق التي أدت الى هذه المرحلة من الغموض غير البنّاء الذي أرخى بـ»ظلاله الرمادية» على الحراك الخارجي والداخلي بشكل مُواز. فأبعد المخارج المحتملة عمّا يمكن ان تطاله ايدي سعاة الخير والمصالحة ووضعها في مكان بعيد من دون وجود أي خارطة طريق يمكن ان تؤدي إليها.
وعليه، فقد رغبت هذه المصادر بالفصل بين ما أدى الى «الكربجة» الإقليمية على مستوى اللجنة الخماسية وفشل لقاء نيويورك من جهة، والداخلية التي تلمسها كل من الموفد القطري السري جاسم بن فهم آل ثاني ومن قبله الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان من جهة اخرى، وهما اللذان أنهَيا جولتهما الاخيرة في لبنان من دون القدرة على اقتراح أي خطوة بنّاءة.
على المستوى الاقليمي اولاً، – قالت المصادر – فوجئ المراقبون بمجموعة من التحركات الإقليمية والدولية التي فرضت تحولات سريعة لم تستوعبها المنطقة بعد. فعلى وَقع ما انتهت إليه «وثيقة بكين» بين المملكة العربية السعودية وقبل ان ينجز الطرفان بعض الخطوات الفورية التي تم التفاهم بشأنها في العلاقات بين البلدين حصراً، وما يمكن تحقيقه في ساحات المواجهة التي كانت قائمة بينهما من اليمن الى سوريا والعراق وغيرها، تلاحقت المشاريع الكبرى التي عكّرت الأجواء الاقليمية والدولية وجاءت خطوات التطبيع بين الرياض وتل أبيب لترفع مجموعة من العوائق التي فرمَلت خطوات عدة كانت مقررة في أعقاب التبادل الديبلوماسي بين طهران والرياض.
وعليه، أضاف الديبلوماسي انّ أولى ضحايا التحولات الجديدة كانت في سقوط الرهانات التي عقدت على مصير المفاوضات السعودية – اليمنية التي بدأت سرية في سلطنة عمان، وانتقلت بشقها العلني الى الرياض التي قصَدها وفد حوثي رفيع المستوى سعياً الى تفاهمات يمنية – سعودية ويمنية – يمنية لم تكتمل فصولها. وقد أعاقتها الشروط المتبادلة التي أعادت عقاربها الى الوراء، فانتهت زيارة الوفد اليمني الى الرياض من دون الاعلان عن اي خطوة جديدة. وهو ما تَرجمه الحوثيون بالهجوم الذي استهدف القوة البحرينية على الحدود اليمنية وادى الى مقتل عدد من جنودها في رسالة دمويةٍ تزامنت مع تأجيل خطوات الحصار عن الموانئ اليمنية التي تديرها القوى العاملة خارج الشرعية اليمنية، والتي ردّت بالعرض العسكري الذي نظّم لاستعراض قوتها العسكرية وما رافقه من مواقف سياسية تَعدّت الخلافات حول الشأن اليمني بتفاصيله العسكرية والسياسية الى ما شَكّل ترداداً للمواقف الإيرانية التصعيدية التي قاربَت ملف التطبيع بين الرياض وتل أبيب فاختلط حابل الملفات الداخلية بتلك الإقليمية والدولية.
اما على المستوى الداخلي، فقد تلاحقت المواقف الدراماتيكية التي كان أبرزها وأخطرها وقعاً نَعي الرئيس نبيه بري لمشروع طاولة «حوار الايام السبعة»، مؤكداً انه قد أدى قسطه للعلى وجَمّد باقي الخطوات التي كان يمكن ان يتخذها لو انطلق قطار الحوار الذي أعد له، والذي كان من المفترض ان يؤدي الى تحديد موعد الجلسة الثالثة عشرة لانتخاب الرئيس من دون ان يختم محضرها ليطلق بعدها سلسلة الدورات المتتالية التي لن تتوقف قبل انتخاب الرئيس.
وما زاد في الطين بلة، انّ من فَسّر خطوة الرئيس بري لم يردها فقط الى رفض مشاركة المعارضة والاحزاب المسيحية في اعمال الطاولة كما خطط لها فحسب، بل انها جاءت في الوقت عينه انعكاسا مباشرا لفشل الجولة الثالثة لجان ايف لودريان الى بيروت بعدما اعتبرت مكمّلة – من تحت الطاولة – لمسعاه الحواري بين اللبنانيين. وكان ذلك قبل ان يكرّس «لقاء نيويورك» فشل المسار بكامله، وصولاً الى ما اعتبر عودة بالتحضيرات للاستحقاق الرئاسي الى نقطة الصفر.
وتأسيساً على ما تقدم، وانطلاقاً من مجموعة النكسات الاقليمية التي أصابت عمل الخماسية الدولية وتلك التي أعاقت حوار الداخل وأقفلت الطريق على مساعي البحث عن القواسم المشتركة التي يمكن ان يلتقي من حولها اللبنانيون، جاءت «الضربة الموجعة» التي تلقّتها باريس، في «لقاء نيويورك الخماسي» لمجرد اصطدامها بالجدران الاربعة الاخرى. فقد كان واضحاً من مسلسل المواقف التي عبّرت عنه القوى الاربعة الاخرى من اعضائها عندما طلبت من باريس في اللقاء المذكور تحديد مهلة قصوى لوساطتها في بيروت، وما حال دون ترجمة قراراتها التي تم التوصل اليها في «لقاء الدوحة» وما رسَمَ من خطوات توصّلاً الى جلسة انتخاب الرئيس ليترأس «فخامته» طاولة الحوار المطلوبة.
وتستطرد المصادر لتقول، انّ اجتماع نيويورك شكل تحولا كبيرا في المبادرة الفرنسية، فأطلقَ لودريان أولى خطوات انعطافته في زيارته الى الرياض التي انتهت على ما يبدو الى اعادة اللحمة بين الفريقين الفرنسي والسعودي في موازاة تفاهم جرى التوصّل اليه مع الجانبين الاميركي والقطري، بعدما أطلق لودريان للمرة الأولى عبر احدى الصحف الفرنسية الكبرى دعوته العلنية الى «الخيار الثالث» إيذاناً بسقوط الخيارات السابقة التي تحكّمت بمبادرتها.
وامام هذه الخيارات والمؤشرات المختلفة بتناقضاتها، تُنهي المصادر عرضها لتقول: عند هذا المفترق المعقّد تتوقف كل التطورات المحيطة بالاستحقاق الرئاسي. وما تسرّب من لقاءات الرياض ولا سيما بين لودريان ووزير الخارجية فيصل بن فرحان وشهد على نتائجه السفير وليد البخاري، يمكن القول ان باريس التي طلبت مهلة إضافية لمبادرتها الاخيرة، كَرّست عودتها الى الموقف الخماسي الموحّد بحثاً عن الخيار الثالث.
وعليه، انتهت المصادر لتقول ان المبادرة القطرية تجمّدت لبعض الوقت بعدما لم يتوصل الموفد السري جاسم بن فهد آل ثاني الى اي نتيجة ايجابية من لائحة مرشحيه الجديدة، بانتظار ما يمكن ان يقوم به لودريان العائد الى لبنان في الايام المقبلة ليتبيّن الخيط الابيض من الاسود في ظل ما بات ثابتاً، ومفاده انّ الاستحقاق الرئاسي أُدخل مرة أخرى الى ثلاجة الانتظار.