يؤمن ميشال عون أنّ الوقت لمصلحته خصوصاً بعد الكلام المنقول عن المشنوق الذي دعا الى كسر المراوحة وتبني ترشيحه
يفلش الجنرال ميشال عون الأوراق التي توضع يومياً على طاولته ويفنّد طياتها غير المكشوفة من باب تبيان ما تخبئه وتأكيد المؤكد، ليرفع معها من منسوب ثقته بنفسه ويحسمها بالنتيجة أمام من يلتقيهم: نراكم في بعبدا قريباً.
يتصرف الرجل على أساس أنّ «لقمة» الرئاسة صارت في ثغره ولا ينقصها سوى دفشة صغيرة كي تصير في البطن. تكفيه الأخبار الآتية من بيت الوسط عن اتساع نطاق التصحّر المالي لدرجة صرف 700 أمني من قطاع الحراسة، كي يزداد قناعة بأنّ سعد الحريري سيصرخ في القريب العاجل وجعاً من لعبة عضّ الأصابع، ليستسلم لمشيئة «الثنائي المسيحي» ويفتح أبواب القصر أمام الجنرال.
على عكس ما يعتقد كُثر، فإن رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» مؤمن بأنّ الوقت لمصلحته لا العكس. كلما دنا زعيم «تيار المستقبل» من خانة «اليك» كلما انفرجت أسارير جنرال الرابية وراح يعدّ الأيام التي تفصله عن القصر. من هذه الزاوية بالذات قرأ الكلام المنقول عن نهاد المشنوق الذي دعا الى كسر المراوحة وتبني ترشيحه، والتقط أيضاً إشارات الانفتاح من جانب السعودية، سواء بالدعوة الى العشاء في منزل السفير علي عواض عسيري أو في مواقف الأخير المسقطة لكل الفيتوات المحتملة.
هكذا يراكم المواقف التي تطلق من هنا وهناك والتي تدعم نظريته. ها هو وليد جنبلاط يرفع قبعته احتراماً لرأي الاقطاب المسيحيين، فيما ينضم ميشال فرعون الى القوى المعبدة للطريق بين الرابية وبعبدا، معتبراً أن «ترشيح عون باتت له شرعية مسيحية ويجب تداوله وايجاد الضمانات المطمئنة للجميع».
بهذا المعنى، كان بإمكان قراءات نتائج الانتخابات في طرابلس أن تؤخذ الى مكان آخر غير الذي بلغته فور فتح الصناديق، لو أنّ المنتصر هو غير أشرف ريفي، ولو أنّ الأخير لم يصبغ معركته بلون سياسي فاقع اتكأ فيه على منطق التشدد وشدّ العصب المذهبي ورفع الأصبع بوجه «حزب الله».
ولكن هذه المشهدية الحادة في نبرتها وفي دلالاتها هي التي فرضت الخضّة السياسية وما تلاها من ارتدادات طالت خاصة الساحة السنية التي راحت تنبئ بحراك تمرّدي قد يشلّع البيت «المستقبلي»، واستطراداً، علاقة الحريرية السياسية بالحاضنة الإقليمية، أي السعودية، بعدما أعاد نهاد المشنوق طابة الخيارات السياسية لفريقه الى ملعب الديوان الملكي.
على هذا الأساس، صارت «مبادرة باريس» على المحك، على اعتبار أنّ الإرباك حصل على مسرح اللاعب السني المتمثل بسعد الحريري، الذي مدّ يد التعاون الى سليمان فرنجية طارحاً إياه مرشحا جديا لرئاسة الجمهورية يعيد التوازن الى السلطة، خصوصاً أنّ وليد جنبلاط سارع الى التقاط إشارات هذه المتغيرات الداخلية (والتي يحاول البعض ربطها بحراك اقليمي مستجد)، ليعيد تعويم «إرادة» المسيحيين معتبراً أنّه يقبل «بقرار المصالحة المسيحية، واذا قال كل الاقطاب المسيحيون إنّ خلاص لبنان هو برئيس تكتل التغيير والاصلاح ميشال عون، فلا مشكلة».
ومع ذلك، لا يرى المتحمسون لمبادرة باريس أنّ كلام زعيم المختارة يحمل في طياته ملامح خارجية لتسوية تطبخ على نار هادئة سترفع حظوظ الجنرال عون وتدخله القصر على حصان التوافق، لأنها اعتبارات محلية ترتبط بوضعية الجبل فقط، مع أنّ فرنجية كان واضحاً في حسم موقفه وبأنه سيقف خلف رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» اذا ما تمكّن من نسج التفاهم حوله.
ولكن بنظر هؤلاء فإنّ مبادرة باريس لا تزال قائمة وفيها من مقومات الصمود والحياة ما يسمح لها بأن تواجه المتغيرات السريعة الحاصلة على الساحة الداخلية، من دون أن تهتز أساساتها.
يكتفي هؤلاء بالسؤال عن موقف «حزب الله» حيال كل هذه التطورات، لا سيما تلك الحاصلة في الشارع السني، حيث يفترض منطقياً أن ينتاب القلق الضاحية الجنوبية اذا ما تبيّن لها أن خطاب التشدد والتحدي هو ورقة استقطاب هذا الجمهور وأنّ عمليات القضم باتت تنذر بما هو أبعد من الاستحقاق البلدي.
ولذا يعتقد هؤلاء أنّه ما دام «حزب الله» هو صاحب القرار الفصل في رئاسة الجمهورية، فهو بلا شك لن يكون معنياً بكل الفوضى التي شهدتها الساحة السنية مؤخراً، بمعنى أنّ خياراته الرئاسية ستتحدد وفق استراتيجيته وليس وفقاً لخطابات التعبئة التي تقدم أمام الجمهور «المستقبلي».
وبهذا فهو مرتاح جداً ما دام الترشيحان الجديان للرئاسة الأولى يعودان لحليفيه، عون وفرنجية، لأنه كيفما رست المفاوضات ستكون يداه في الماء البارد ولن يكون مضطراً للبحث عن ضمانات في أوراق اعتماد الرئيس في ما لو كان من الخانة الوسطية.
وبهذا تصبح الرئاسة أمام سيناريوهين: فإما أن يرفع سعد الحريري قبعته للتفاهم المسيحي ويفتح أبواب القصر أمام الجنرال، وبذلك سيكون نواب «حزب الله» من الجالسين على مقاعد التصويت في الهيئة العامة لوضع أصواتهم في الصندوقة الخشبية.. وإما يبقي على المبادرة الباريسية حيّة ليتمسك بقشتها، رفضاً للسير بترشيح جنرال الرابية.
ولكن للسيناريو الأول، وفق المدافعين عن المبادرة، محاذيره وتحدياته الصعبة. فإذا كان الحريري يواجه «الانفلاش الريفي» بسبب لجوء الوزير المشاغب الى مفردات التصويب على قوى «8 آذار» ومرشحيها الرئيسيين، فهذا يعني أنّ زعيم تيار «المستقبل» غير قادر على مداواة جراح جمهوره بترفيع شأن ميشال عون من زعيم مسيحي الى رئيس للجمهورية.
وقد يردّ المتحمسون لجنرال الرابية بأنّ فرنجية يواجه المشكلة ذاتها بكونه يتمتع بالمواصفات نفسها التي قد تحول دون احتضانه من جانب الشارع السني، فيقول المدافعون عن التفاهم الحريري – الزغرتاوي إنّ فرنجية أقرب الى الشارع السني من غيره، وأثبت هذا الجمهور في أكثر من مناسبة أنّه لا يمانع ترئيسه ولا حتى يعارض التفاهم الحاصل بين بيت الوسط وبنشعي بعدما قطع شوطاً لا بأس به من التطبيع بين الفريقين، فضلاً عن الفيتو السعودي المرفوع بوجه الجنرال.. ما يسمح للقطب الزغرتاوي بأن يتخطى عون في هذه المسألة بالذات.
ويرى هؤلاء أنّ سقوط المبادرة لا يعني أبداً تعويم ترشيح الجنرال ميشال عون ما دام التأييد السني شرطا أساسيا لا يمكن تجاوزه، وبالتالي فإنّ إبعاد فرنجية عن السباق الرئاسي يعني البحث عن خيار ثالث يكون من طينة الشخصيات الوسطية. ولذا يستطردون بالسؤال: هل هناك من مصلحة لـ «حزب الله» بالتراجع من مربّع مرشح من فريقه السياسي الى مربع المرشح الثالث؟ وما هي الضمانات التي سيعّوض بها هذا الانتقال؟ وهل هي متوفرة؟ وهل من مصلحته التضحية بمرشحين أساسيين قد يخسر معهما الجمهور المسيحي؟
إذاً، لا تزال هذه المبادرة صامدة بنظر المتحمسين لها، للأسباب الآتية:
ـ سعد الحريري يرفض السير بترشيح الجنرال لاعتبارات داخلية وخارجية.
ـ «حزب الله» يرفض خيار المرشح الثالث.
ـ الشارع السني لن يهضم ترشيح الجنرال، ولا يبدو أن الحريري قادر على فرض هذا الترشيح بعد الآن.
على هذا الأساس يعتبر هؤلاء أن ارتفاع نسبة التفاؤل العوني في الأيام الأخيرة ليس في محله، خصوصاً أن نتائج الانتخابات البلدية باتت تسمح بتجاوز «تفاهم معراب»، كما يؤكدون.