عشرات المهاجرين غير الشرعيين انطلقوا من ميناء طرابلس في الأيام المنصرمة ووصلوا الى قبرص، المحطة على طريق الهجرة الى أيّ بقعة في أوروبا، بعيداً من لبنان وطن الذلّ والخوف. 5 قوارب تحمل هؤلاء، جعلت السلطات القبرصية تُسارع الى ارسال موفد رسمي الى لبنان لوقف هذه الظاهرة. ورقة الضغط هذه على الدول الأوروبية التي يملكها لبنان، لم يُحسن استخدامها لمصلحته في ملف النازحين السوريين، حسب مصادر متابعة لهذا الملف. وهذا يُثبت مدى أهمية استقرار لبنان للدول الأوروبية، لا سيما منها المطلة على البحر المتوسط.
قبل جريمة انفجار 4 آب كان لبنان يملك بين يديه أوراقاً للصمود الى حين الحلّ الشامل حسب الخارج، لكن بعد هذا التاريخ، بات مصير البلد المحتّم يُراوح بين الإنهيار والفوضى أو الحرب الأهلية أو الزوال في شكله الحالي. انطلاقاً من ذلك، إضافةً الى عوامل ومصالح عدة، سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى زيارة بيروت بعد يومين على الإنفجار في مرفئها، ثمّ حضر مرة ثانية خلال شهر، حاملاً خريطة طريق لصمود لبنان وعدم زواله.
وعلى رغم من أنّ المبادرة الفرنسية في هذا الإطار، لاقت «إجماعاً» من الأفرقاء السياسيين في لبنان، إلّا أنّ الإمتثال لتكليف الدكتور مصطفى أديب تأليف الحكومة المقبلة و»التسهيل» الظاهري لهذه العملية الدستورية، لا يشيران الى تغيير في الذهنية، أو الى رغبة وطنية في التنازل من أجل بقاء البلد، بل لأنّ عدم الامتثال سيولّد هذه المرة عقوبات ونهاية سياسية لهؤلاء «المسؤولين»، حسب ما أعلن في وضوح الفرنسيون والأميركيون، وترجموا كلامهم بالعقوبات الأخيرة التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على كلّ من النائب والوزير السابق علي حسن خليل والوزير السابق يوسف فنيانوس.
ولا يزال لبنان الرسمي يقف متفرجاً، أو في موقع المتلقّي في أفضل الحالات. لا مبادرات محلية، منفردة أو جماعية، تنتج حلولاً لأي من المشكلات الحياتية اليومية أو تلك الوجودية. ماكرون يُمكنه جمع القادة السياسيين الى طاولة واحدة، فيما أنّ أياً منهم لا يُمكنه فعل ذلك. ماكرون يُمكنه أن يحقق إجماعاً أو تعهّداً لبنانياً سياسياً على ورقة أو خريطة طريق، فيما أنّهم لا يُمكنهم التوافق حتى على إدارة ملف النفايات. ويتحدثون عن اتفاق سياسي جديد أو عقد اجتماعي أو مؤتمر تأسيسي أو تغيير النظام، فيما أنّهم لا يلتزمون الدستور والقوانين أو أياً من الاتفاقات التي سبق أن أبرموها أو أجمعوا عليها، مثل «إعلان بعبدا» في عهد الرئيس ميشال سليمان.
وفي حين يعتبر البعض أنّ المبادرات الخارجية، ومنها المبادرة الفرنسية، هي في عمقها صفقة مع هذه الطبقة السياسية، توضح مصادر مطلعة على اجتماعات ماكرون واتصالاته بالأفرقاء اللبنانيين، أن لا وجود لأي صفقة أو مؤامرة، بل هناك رغبة دولية، منطلقة من الإهتمام بلبنان ومن مصالح هذه الدول، في منع لبنان من الانهيار عن طريق تأليف حكومة قادرة على أن تُجري الإصلاحات المطلوبة وتستوفي الشروط الخارجية. وتشير الى أنّ الرئيس الفرنسي أكّد أنّ تأليف الحكومة ليس كافياً ولن يؤدي بمفرده الى الإفراج عن المساعدات المالية الفعلية، بل إنّ هذا الأمر مرتبط بالإصلاحات. وإذ تذكّر أنّ ماكرون قال إنّ لبنان معرّض لحرب أهلية، وأنّ وزير خارجية فرنسا قال إنّ لبنان يواجه خطر الزوال، تلفت الى أنّ همّ ماكرون الأساس الآن منع انزلاق لبنان الى مزيد من التوتر، وهو يعمل ضمن هذه الحدود، أي يحاول جدّياً نقل لبنان من حالة الانهيار الى حالة الاستقرار.
وتعتبر المصادر نفسها، أنّ المبادرة الفرنسية إذا أثمرت، فنجاحها لا يعني تعويم الطبقة السياسية. فبات واضحاً للشعب اللبناني أنّ أي إصلاح ستحققه هذه الطبقة، أو تغيير في النهج، يأتي تحت تلويح وتهديد كلّ من العصا الفرنسية والأميركية، وليس بمبادرة ذاتية، هذا إذا سمحت في تحقيق أي إصلاح. وبالتالي، إنّ التغيير الفعلي يبقى في يد اللبنانيين، في الانتخابات النيابية المقبلة غير البعيدة.
لكن مصادر سياسية عدة، من فريقي السلطة والمعارضة، تُجمع على أنّ كلّ ما يحصل الآن من مساعدات أو مبادرات، لا يعدو كونه مسكّنات الى أن يأتي وقت ترتيب المنطقة ككلّ. وتشير مصادر مشاركة في إجتماعات مع أكثر من مسؤول غربي، الى أنّ «لبنان دخل مرحلة في حاجة الى ترتيب جديد، لكنه لم يحِن بعد». لافتةً الى أنّ «الجيش الروسي على حدودنا لجهة سوريا، والجيش الاسرائيلي على حدودنا لجهة فلسطين المحتلة، وبوارج دول العالم كلّها ترسو على شاطئ بيروت». وتعتبر، أنّ الطرح الداخلي الوحيد الجدّي والمفيد للبنان هو طرح إعلان الحياد الذي قدّمه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إذ إنّ لبنان برهن خلال مئة عام أنّه غير قادر على الدخول في أي مشروع إقليمي من دون أن يؤدّي ذلك الى هزّ استقراره وتدميره.
وتقول مصادر زارت موسكو أكثر من مرة خلال هذه السنة، والتقت أكثر من مسؤول روسي رفيع المستوى، إنّ الروس يعتبرون أنّ لا حلّ في لبنان الّا الحلّ السياسي، وإنّ القيادة الروسية تدعو جميع الأفرقاء في لبنان دائماً الى أن يتحاوروا في السياسة وأن ينتجوا حلاً. لكن هذه المصادر تعتبر أنّ «الأمر الأكيد هو أنّه لا يوجد أي حل داخلي، فغالبية الأفرقاء لديهم ارتباطات خارجية لا يُمكنهم التصرّف بمعزل عنها». وتؤكّد «أنّ الحل في لبنان لن يتظهّر إلّا عند نضوج الاتفاق الأميركي ـ الإيراني، وتنظيم حدود كلّ لاعب في الإقليم، وتقسيم النفوذ في شرق المتوسط بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيران وحتى تركيا. وتشدّد على أنّ هذا الحل ليس قريباً، وهو أبعد من الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي ينتظر نتائجها الجميع. فالمفاوضات والحلول لن تتظهّر غداة هذه الانتخابات مباشرةً بل تتطلّب وقتاً، خصوصاً إذا حصل تغيير في الإدارة الأميركية.
وتشير المصادر نفسها، الى أنّ «لبنان كان متروكاً جانباً من الخارج، إلّا أنّ سقوط النظام المصرفي والمالي وتدمير المرفأ نقلا البلد الى مكان خطير، ما حتّم المساعدة الخارجية الموقتة لبقاء لبنان، ولن تتمكّن أي حكومة من إرساء أي حلّ جدّي، وأقصى ما تستطيع فعله هو تأمين عوامل الصمود، الى حين تظهّر الحل الإقليمي. ففي الداخل لا قرار في السياسة، بل هناك قوى خارجية تقرّر عنّا، ويُحدّدها توازن القوى».